نقترب من نهاية العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مروراً بما يعد التأسيس الثالث للدولة المصرية الحديثة ، ونتفرد داخل جنبات هذا الوطن بحضارة عدت مع حضارة بلاد الرافدين أقدم الحضارات الإنسانية قاطبة.

مياه كثيرة جرت تحت الجسور منذ تأسست الحركة النسوية المصرية في أعقاب استقلال الدولة المصرية في عشرينات القرن الماضي مطالبة بالحقوق السياسية الكاملة أسوة بالرجل ، توالت الدساتير المصرية من دستور 1923 وحتى الاعلانات الدستورية اللاحقة لثورة يوليو 1952 ، وسطعت في سماء الحرية أسماء كمنيرة ثابت وهدى شعراوي وغيرهن وصولاً لبنت النيل “الدكتورة درية شفيق” ، وبسبب كفاحهن الوطني حصلت المرأة المصرية على حقوق سياسية مساوية للرجل في دستور مصر 1956 ودخلت البرمان المصري لأول مرة سيدتين هما راوية عطية وأمينة شكرى.

 

على صعيد آخر ورغم خلو الدساتير المصرية المتعاقبة من ثمة قيد أو منع على تولي المرأة للمناصب القضائية ، فقد عانت المرأة المصرية كثيراً في الجلوس على منصة القضاء ، وقبل الحديث عن موقف المرأة والقضاء المصري يتعين هنا أن نوضح البنيان المؤسسي للجهات والهيئات القضائية المصرية ،

تتفرد مصر -أسوة بالنظام الفرنسي- بما يسمى بنظام القضاء المزدوج فيوجد لدينا وفقاً للدستور الجهات القضائية الآتية:

  • القضاء العادي والنيابة العامة
  • مجلس الدولة “القضاء الإداري بأجنحته”
  • المحكمة الدستورية العليا

وجميعها تتولى الفصل في الخصومة بإصدار أحكام قضائية باسم الشعب ، بينما على الناحية الأخرى لدينا الهيئات القضائية وهي كل من

  • النيابة الإدارية
  • هيئة قضايا الدولة

وهي تلك التي تمارس عملاً قضائياً ولكنها لا تصدر حكماً يفصل في خصومة ، فالاختصاص الأصيل للنيابة الإدارية هو التحقيق مع العاملين بالجهاز الإداري للدولة في المخالفات المالية والإدارية والمسلكية التي يرتكبونها بمناسبة وظيفتهم بينما تختص هيئة قضايا الدولة بتمثيل الجهات الحكومية أمام القضاء والنيابة عنها.

 

وفي الوقت الذي تمتعت فيه المرأة المصرية بدخول الهيئتين القضائيتين “النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة” منذ منتصف القرن الماضي وحتى الآن ، لتصل نسبة السيدات داخل النيابة الإدارية إلى 43% من اجمالي عدد أعضائها الحالي (2560 من اجمالي 4477 عضواً) ، بل وتبوأت المرأة المنصب الأرفع داخلها أكثر من مرة بداية مع الراحلة المستشارة / هند طنطاوي 1997 (أول سيدة تشغل منصب رئيس هيئة النيابة الإدارية) مروراً بمن لحقها وهي المستشارة / ليلى جعفر 2000 ثم المستشارة / رشيدة فتح الله 2017 وحتى المستشارة / فريال قطب – رئيس الهيئة الحالي ، بينما وصلت نسبة السيدات داخل هيئة قضايا الدولة ما يقارب ال 20% من اجمالي عدد أعضائها.

فإذا نظرنا صوب الجهات القضائية “القضاء العادي والنيابة العامة ومجلس الدولة والمحكمة الدستورية العليا” لوجدنا أن المرأة المصرية ظلت عقوداً محرومة من ولوجها حتى دخلتها أول مرة عام 2003 باختيار المستشارة / تهاني الجبالي كأول قاضية بالمحكمة الدستورية العليا والتي ظلت بها حتى تم تقليص عدد قضاة المحكمة الدستورية العليا من 19 إلى 11 قاضياً في عهد دستور الإخوان 2012 ، ورغم أن دستور مصر الحالي 2013 لم يحدد عدداً لقضاة المحكمة الدستورية العليا ألا أنه لم يشهد عودة المرأة مرة أخرى لتشكيل المحكمة وانما اكتفت بوجودها بهيئة المفوضين بالمحكمة الدستورية العليا “وهم المستشارون المعاونون للمحكمة في تحضير الدعاوى وإبداء الرأي القانوني فيها قبل أن تتولى المحكمة الفصل فيها”

شهدت قضية المرأة تطوراً نوعياً عام 2007 بتعيين 32 قاضية بالقضاء العادي مباشرة ثم جرى تعيين دفعتين من القاضيات في 2008 و 2015 ليصبح إجمالي عدد القاضيات في القضاء العادي 66 قاضية. وهنا لابد لنا من وقفة نلقي فيها الضوء على بعض النقاط الهامة :

  • أن عدد ال 66 قاضية يشكل نسبة تقارب نصف في المائة 0.5% من عدد القضاه في القضاء العادي وهي نسبة لها دلالتها اذا علمنا أن نسبة الإناث إلى الذكور في المجتمع المصري تصل إلى 49% من عدد السكان.
  • أن آلية الاختيارالتي تم بموجبها تعيين القاضيات ال 66 كانت تختلف كلية عن تعيين زملائهم القضاة من الذكور ، فالأصل أن النيابة العامة تتولى الإعلان عن حاجتها لشغل وظيفة معاون نيابة من حملة ليسانس الحقوق ويتقدم المرشح لعدة اختبارات حتى يتم اختياره ليعمل بالنيابة العامة ويترقى فيها إلى أن يبلغ سن ال 30 عاماً وحينها ينتقل أغلب المعينين للعمل بالقضاء العادي بدوائره المختلفة ويبقى عدد قليل يختاره النائب العام يكمل مسيرته بالنيابة العامة وهو ما يعرف بحركة التبادل بين القضاء والنيابة العامة ، أي بمعنى آخر أنه لا يمكن أن يعين القاضي مباشرة بالقضاء دون مروره بمرحلة النيابة العامة ابتداء ، أما القاضيات ال 66 اللائي تم اختيارهم على دفعات ثلاثة فقد تم اختيارهم من الهيئات القضائية “النيابة الإدارية وهيئة قضايا الدولة” ونقلوا للعمل بالقضاء دون المرور بمرحلة العمل بالنيابة العامة أسوة باقرانهم الذكور.
  • وأخيراً أنه ورغم دخول المرأة للقضاء العادي ولو بتلك النسبة القليلة إلا أن هناك أماكن داخل القضاء العادي ذاته لم تدخلها المرأة كمحكمة النقض “وهي المحكمة الأعلى داخل البنيان الهرمي للقضاء العادي”

 

وعلى صعيد آخر وحتى تاريخ كتابة هذه السطور ما زالت المرأة محرومة من العمل بمجلس الدولة والنيابة العامة فلا توجد إمرأة واحدة دخلت أي منهما حتى الآن ، ورغم أن دستور مصر الحالي حرص على النص صراحة في مادته الحادية عشر على حق المرأة في التعيين في الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها ، وجائت مادته الثالثة والخمسون لتكرس لمبدأ عدم التمييز بين المواطنين كمبدأ دستوري ، إلا أن المرأة ظلت محرومة من هذا الحق حتى الآن بحجج مختلفة مابين القول بحرمانية ذلك دينياً إلى أن طبيعة العمل لاتناسب المرأة وعدم قدرتها على التوفيق بين التزاماتها الأسرية والعملية ، وهي كلها أمور يمكن وببساطة دحضها ، فمن الناحية الشرعية ورغم أن دار الإفتاء ذاتها حسمت الموضوع بالقول صراحة بعدم وجود أي مانع شرعي لعمل المرأة بالقضاء فاننا سنذهب لأبعد من ذلك ونقول أن مجرد التساؤل حول مدى جواز عمل المرأة بالقضاء هو تساؤل لابد أن يكون مستنكراً اليوم ونحن في عام 2018 وحولنا دول العالم سواء الأوروبية والأمريكية أو حتى الدول العربية كالأردن وفلسطين والمغرب والسودان وموريتانيا وتونس والكويت والإمارات وغيرها قد عملت بها المرأة في القضاء منذ زمن طويل ، ان قضية المساواة قضية محسومة دولياً وعالميا بكل الاتفاقات والمواثيق والعهود الدولية ومناقشتها تكون داخل اطارها الاجتماعي وليس بالدخول في محاججة بآراء دينية متشددة كانت وليدة عصرها ، وفي دولة حديثة تحتكم للدستور والقانون فلا يمكن أن يكون السؤال اليوم حول ما إذا كانت حقوق الرجال والنساء متساوية أم لا ، أما من ناحية عدم تناسب العمل مع طبيعة المرأة خاصة مع حاجتها للتنقل والسفر في محافظات أخرى وتأثير ذلك على الانجاز ، فهذا مردود عليه بأننا لانقول أن أي إمرأة تصلح للعمل بالقضاء وكذلك ليس اي رجل بل أن من تتوافر فيه الاشتراطات والصفات المقرره للقضاة ويرغب في التقدم للوظيفة فليتفضل وهو على علم بمتطلبات تلك الوظيفة ليتم الاختيار من بين المتقدمين على أساس الكفاءة والصلاحية دون النظر إلى النوع ومن لم ير/تر في نفسه/نفسها القدرة على التحمل بأعباء العمل القضائي بكل مسئولياته فليحجم/لتحجم عن التقدم للوظيفة بالأساس بإرادته/إرادتها الحرة وفي النيابة الإدارية على سبيل المثال كما قلنا تشكل المرأة نسبة 43% من الأعضاء وكانت نسبة انجازها المعلنة بتقريرها عن عام 2017 هي 91% وهي رسالة لا تحتاج لترجمة حول فاعلية المرأة في أداء رسالتها القضائية ، أما في معرض الرد على عدم قدرة المرأة على التوفيق بين واجباتها المنزلية وعملها فهو قول فيه تجن كبير على العديد من النساء العاملات داخل المجتمع المصري في شتى المجالات والتخصصات ما بين القطاعين العام والخاص بل وحتى المناصب الوزارية والقيادة العليا للهيئات والشركات ،والإحصائيات الرسمية تقرر أن 34% من الأسر تعولها أمرأة ، فضلاً عن أن تلك النظرة تفصح عن نظرة ذكورية تختزل الواجبات المنزلية حكراً على المرأة دون الرجل فيكون على المرأة أن تشارك الرجل العمل خارج المنزل ثم تنفرد وحدها بأعباء الواجبات المنزلية وهو ما لا يتفق والعلاقة الزوجية التي تنشأ على أساسها الأسرة كرابطة شراكة بين أفرادها تشمل التزامات ومسئوليات يتشاركون فيها.

وأخيراً فأن القيادة السياسية وقد خصصت العام الماضي 2017 عاماً للمرأة تولت فيه لأول مرة منصب المحافظ وحملت ستة حقائب وزارية لأول مرة في تاريخ مصر ، فإننا نتطلع إلى المزيد خلال العام الحالي بما يكرس للمساواة المطلقة بين المواطنين ، فإن عمل المرأة بالقضاء لم يعد حق من حقوق المرأة التي يتعين أن تحصل عليهافي إطار الكفاح النسوي  ولا حتى حق انساني أصيل يكرس لعدم التمييز الذي أرتضته الانسانية الحديثة، بل يمكن القول أنه بات يشكل الاختبار الحقيقي لاحترام المباديء والمواد الدستورية التي وافق عليها الشعب في استفتاءه الأخير على الدستور الحالي.

المستشار : محمد سمير أحمد

المتحدث الرسمي للنيابة الإدارية