“شيكابالا” بالنسبة لمشجعي الكرة هو واحد من أهم اللاعبين المصريين، يُهتف باسمه في المدرجات، أما بالنسبة للاجئين السودانيين الذين قادهم قدرهم إلى مصر، هي الكلمة التي توجعهم وتشعرهم بالتمييز. كلمة “شيكابالا” مرتبطة في أذهانهم بصورة الأطفال يركضون وراءهم ساخرين من لونهم الأسمر. “شيكولاتة” ليست هي قطعة الحلوى التي تسعد الصغار، ولكنها “الشتيمة” التي يلحقون بها أصحاب البشرة السمراء. غنى محمد هنيدي في فيلمه “صعيدي في الجامعة الأمريكية” أغنية “شيكولاتة” مادحًا أهل النوبة والسودان، ربما لم يكن يعرف أن أغنيته ستكون للسخرية منهم.
“مصر والسودان” كانا بلدًا واحدة، يربط بينهما النيل، وعلى الرغم من ذلك، ظلت النظرة لأصحاب البشرة السمراء أنهم أقل شأنًا من باقي المصريين. على مدار التاريخ كانت مصر هي الملجأ لآلاف بل ملايين السودانيين هربًا من الأوضاع غير المستقرة في بلادهم، وقبل 1995 كان مبارك يسمح بدخولهم لمصر دون تأشيرة تحت اتفاقية “وداي النيل”، لكن بعد حادث “أديس أبابا” ألغيت هذه الاتفاقية وتم فرض قوانين صارمة على وجودهم في مصر. على الرغم من وجود أغلبهم كلاجئين تحت اتفاقية وقعت عليها مصر، إلا أن مصر ترفض إعطاءهم أعمالًا لائقة في أغلب الأحيان. وبعد حادث 2005 عندما فضت الشرطة المصرية اعتصام لأكثر من 3000 لاجئ سوداني أمام مفوضية اللاجئين وقُتل أكثر من 25 وفُقد أطفال، لم يلجأ السودانيون للاعتراض مرة أخرى واكتفوا بالصمت.
يكفي أن تكون أسمر البشرة لتشعر بالاضطهاد، أما أن تكون أسمر ولاجئ وامرأة.. سيجعلك تشعر باضطهاد “كومبو”، التقينا أربع سيدات لاجئات في مصر، يروين لنا معاناتهن ويفتحن لنا قلوبهن المليئة بالمحبة والألم. خديجة أو “أم آية” كما يلقبها جيرانها، كانت تعمل مضيفة جوية في الخطوط السودانية، تتحدث الإنجليزية وتسافر عبر العالم، أتت مصر أول مرة للعلاج، ولكن بعد عودتها للسودان فوجئت بخصخصة الشركة وتسريح العاملين بها. تحكي لنا “خديجة”: “مالقيتش وظيفة في السودان فجيت على مصر، وقدمت في المفوضية السامية للأمم المتحدة لشئون اللاجئين، وفي فبراير 2013 قبلوني لاجئة في مصر”.
كانت “آية” فتاة صغيرة وأمها هي العائل الوحيد لها، فلم تجد الأم خيارًا أمامها سوى اللجوء لمصر، “جيت مصر علشان ألاقي شغل سهل، ورغم إن الشغل مش عيب بس أنا بشتغل من 8 الصبح لـ5 من غير راحة وده خلاني أتعب”، تقول “خديجة” التي تغيرت حياتها في ليلة وضحاها لتهبط طائرتها في مطار اللجوء. بعد سنوات من السكن في مصر عرفها الجيران فاعتبروها “كبيرتهم”، تحكي لنا: “سكان العمارة بيقولولي ماكناش نعرف إن السودان فيها حد فاهم وواعي كده، بس اللى مايعرفكش يجهلك. المواصلات والسوبر ماركت والناس في الشارع الكل بيضايقنا”.
تعرضت “خديجة” للخطف ومحاولة الاغتصاب مرة، لكنها قاومت وأصبحت نصيحتها الأولى لطفلتها: “لو حد كلمك صوتي، ارمي عليه تراب، عضيه، ماتسكتيش”، ترى المضيفة السابقة أن السبب الوحيد لكل ذلك هو أنها “لاجئة”. ترتاد “آية” مدرسة سودانية، “كانت كبيرة مش هتقدر تتأقلم على المدرسة المصرية بسرعة” تقول الأم، لكن طفلتها التي لا تملك أصدقاء مصريين أصبحت تكره مدرستها، لأن الجميع يقول إنها مدرسة للاجئين، “ماعندهمش ثقافة إن دي مدرسة سودانية عادية واللاجئ بيدرس فيها” تحكي “خديجة”.
سماء مفتوحة لا ترى العين نهايتها، وسحاب أبيض يوحي بالسلام، كانت تلك الصورة التي تراها عينا “خديجة” مرة في الأسبوع على الأقل في رحلاتها الجوية، تلتقي بجميع الجنسيات والألوان، ولا تفرق في معاملتهم، أما الآن أصبح لون بشرتها “سبة” توجه لها، “ربنا خالق الأسمر والأبيض والأحمر وكل الألوان، ليه تشتمني وتقولي روحي يا سودا أو يا غيره، مانا زيي زيك وماختارتش لوني”. تقول السيدة التي لا تجد بيديها شيئا تفعله أمام هذه الكلمات. “لو عيل صغير بقوله أنا قد أمك، لكن لو راجل كبير وفاهم، هعمله إيه؟!”.
“لاجئة” تلك الكلمة التي تزعج “خديجة” وتكرهها، على الرغم مما تعانيه، لا تفكر أبدًا في العودة لوطنها، فلن تجد عملًا مناسبًا لها، ولم تفكر بالهجرة خارج مصر إن أتتها الفرصة، “أنا عايزة أربي عيالي زي مانا اتربيت، العيشة في بلد غير عربية مختلفة”. تقول لنا وعيناها البيضاوان تتلألأن: “أنا عارفة إني لاجئة؛ اللجوء من الحوجة، أنا محتاجالك وضيفة في بلدك، مش لازم تحسسني بالاحتياج ده كل شوية”.
اللقاء الثاني لنا كان مع “سيدة” التي أتت لمصر عام 2015 لتلتقي هنا بزوجها الذي سبقها وسافر لأم الدنيا، كانت تحلم بحياة أفضل لأولادها، تحكي “سيدة”: “أهم حاجة أوفّر لابني تعليم وأكل وشرب، ده كل اللي كنت بحلم بيه”. أفاقت “سيدة” من حلمها على كابوس الواقع، أينما ذهبت يتهمها الناس بأنها سبب غلاء معيشتهم، “أنتم غليتوا السكن، وأخدتوا حاجاتنا وأشغالنا، أنتم اللي وديتونا في داهية”. تلك العبارات تسمعها دائمًا الأم التي تتحمل ولكنها ترفق بحال طفلها، “احنا ممكن نتحمل ده لأننا كبار بس ابني لما بيطلع وبيقولوله أنت سوداني وأسمر ويعايروه بيرجع يعيط ويزعل” تحكي “سيدة”.
عندما تضيق بنا الدنيا نلجأ لرب الدنيا، نبكي في حضرته ونتضرع لعلنا نجد إجابة، لجأت “سيدة” لله ولكنها وجدت عباده يمنعوها عنه، “في المسجد لما بقف في الصف قدام بيقولولي ارجعي ورا، بيقولوا كدة علشان لوني، وأنا بقولهم إن لا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوي، بس مش بيقبلوا أقولهم حاجة” تحكي “خديجة” ودموعها تسبق كلماتها.
الحكاية الثالثة لـ”كريمة” التي كانت تسكن شمال دارفور، “المنطقة اللي كنا فيها انحرقت بالكامل في صراعات بين الحكومة والشعب، واتنقلنا منطقة تانية وفضلنا عايشين في معسكر من 2005 لغاية ما جيت مصر في 2015″، تقول “كريمة” التي فرت بأطفالها وأتت لمصر. السبب الرئيسي لهرب “كريمة” وأولادها التسعة من السودان لم تكن الصراعات السياسية، لكن وجع طفلها “سنان” البالغ من العمر الآن 17 عامًا، الذي تعرض للتحرش، فتقدمت بطلب الجوء لمصر عام 2015.
تسعة أطفال هم عدد أولادها، “سنان” اختفى بعد مجيئها للقاهرة ولم تعرف له مكان، أما “سامي” فذهب للحرب في اليمن مع القوات السودانية، وبقية أطفالها يعشن معها في بيتها، “في العمارة كل شوية حد يقولي أنتم 9 عايشين ازاي، عزلنا 3 مرات بسبب الموضوع ده، طيب أولادي أرميهم في الشارع؟!” تقول “كريمة” وهي تبكي.
مرة وحيدة فكرت في اللجوء للشرطة، “روحت للشرطة اشتكي لما ابني تاه الظابط قالي منين جايبة التسع عيال؟ من السوبر ماركت؟ وبتربيهم ازاي بقى، المفروض تفرحي إن واحد مشي” تحكي “كريمة” التي جاوبته “لو ماكنتش عايزة عيالي كنت سيبتهم يموتوا في الحرب”، ولم تخطي قدميها عتبة القسم مرة أخرى، على الرغم من أن المعاملة السيئة وصلت حد قطع قميص ابنتها وضربها بالطوب في الشارع.
“لاجئ”، “شيكولاتة”، “أسمر” تلك الكلمات التي تسمعها، “أنا مش عارفة المشكلة فين؟ ليه بيقولوا كده؟!، مرة حد قال لابني أنت مش بتستحمي، وحتى لو استحميت مش هتتأثر، أنت محروق”. تدمع عينا “كريمة” ثم تكمل حديثها: “الإنسان هو إنسان مهما كان لونه، الإنسان ربنا كرمه، أنت لما تقدّر الإنسان بتقدّر ربنا ذاته، لما تشتمني علشان خلقتي اللي ربنا خلقني بيها يبقى أنت بتشتم ربنا”.
“ليلى” ابنة “كريمة” طالبة جامعية في مصر، لا تسلم من المضايقات داخل الحرم الجامعي، كل حرف تتعلمه تتحمل أمامه عشرات الكلمات من السباب، تقول “ليلى”: “مافيش مصري بيرضى يقعد جمب سوداني أبدًا في الجامعة، ويفضل يقولنا أنتم ليه لونكم كدة؟ وسخانين، إيه القرف ده”. “وسخين” هي الكلمة الأكثر جرحًا لها، تتذكر أخواتها الصغار وهم يبكون، “عايزين نستحمى علشان لوننا ده يطلع”، تقول “ليلى” بأعين مفتوحة لا تخشى شيئا، “لو اللون ده مش فيا، أقول مش فيا، لكن أنا لوني كدة خلقة ربنا، اعمل إيه يعني”.
“الامتحان أمتى؟” “هنذاكر إيه النهاردة”، تلك الرسائل المتداولة على “جروبات” الجامعات المصرية، أما لليلى رسائل أخرى، فتجد من يتهامس مع زميله عليها “شوف لونها عامل ازاي؟” وعندما تضحك تسمعهم يقولون: “إيه ده هما بيضحكوا زينا؟!”. تبكي الفتاة وهي تقول “أنا بقول لأمي لو كنا قعدنا هناك ومتنا وسط أهلنا وناسنا أحسن ما نيجي وسط ناس مش متقبلينا”. ترى “ليلى” أن الشعب المصري أصله أسمر وعلى الرغم من أن جيرانها في العمارة تميل بشرتهم للون الأسود، لا يرون ذلك، “هما شايفين إننا بس اللي مختلفين رغم إنهم مش بيض”.
قبل التحاقها بالجامعة عملت “ليلى” في محل سوري، استأجر رب العمل لها سيارة تقلها خوفًا عليها من التعرض للمضايقات في الشارع، “قالي احنا لاجئين زي بعض وأنا فاهم بيحصل معاكي إيه”، لكن بعد تركها للعمل واحتكاكها بالحياة الجامعية لم تجد من يحن قلبه كما الرجل السوري، “الناس بتقولي في الشارع يارب تموتوا ماحدش هيسأل عنكم، أنتم جيتوا عندنا ليه”. تقول “ليلى”.
أسماء السيدات غير حقيقية بناءً على طلبهن