عن ملحق نوافذ لجريدة المستقبل
فجر يعقوب
الدافع لمشاهدة فيلم «احكي يا شهرزاد» مقرصناً هو أنه فيلم ينتمي بالكامل إلى سلطة المخرج يسري نصر الله، ولاعلاقة لذلك بردّات الفعل الغاضبة التي استهدفت ممثلته منى زكي عبر الصحافة والأنترنت ووسائل الإعلام المختلفة، وهي ردّات لا تعبر عن مزاج فني سوي يمكن من خلاله محاكمة ممثلة لأنها خرقت حجب وأسوار السينما النظيفة المحصنة والتي وجدت من يروج لها، والاستغناء عن محاكمتها على أدائها للشخصية وما إذا أخفقت أو نجحت في ذلك.
بالطبع لا يجيء الإقبال على مشاهدة الفيلم مقرصناً ليلبي هذه الرغبة الجماعية الخفية بالتلصص على مقدمة برنامج نهاية المساء بداية الصباح هبة يونس، ذلك أن القراصنة» ما إن ينتهون من سرقة الفيلم عبر تحميله الفج والأعمى عن الأنترنت، أو حتى تصويره بكاميرا رقمية صغيرة، أو هاتف نقال في الصالة التي يعرض فيها بتواطؤ ضمني بين مالك الصالة ومن يعمل مأجوراً في جيش هؤلاء القراصنة مقابل مبلغ معين من المال، فإنهم يقومون بـ تنظيفه من المشاهد الساخنة حرصاً على الذوق العام. الذوق العام الذي لا تخدشهسرقة فيلم، والاتجار به مشوهاً وقد عافته ألوانه وأضاعت جهد مدير تصوير مبدع مثل سمير بهزان في هذا الفيلم، حتى أنه يمكن الاستماع إلى تعليقات المشاهدين في الصالة وصهصهاتهم، وسعالهم الخ. هذه مسألة أخرى على أية حال يمكن العودة إليها في وقت لاحق، ولكن يمكن القول إن «احكي يا شهرزاد» يجيء بالفعل ليعيد بعض الألق المفقود في السينما المصرية التي تعاني في الآونة الأخيرة، ومنذ فترة لا بأس بها من عسر في الكتابة بالدرجة الأولى. هاهنا نص سينمائي ناضج كتبه وحيد حامد وأخرجه يسري نصرالله.
هبة يونس (منى زكي) مقدمة برنامج تلفزيوني تعمل على تحقيق طموحاتها المهنية بدأب ومثابرة. هي صاحبة طموحات مشروعة تبدأ تدريجيا، من دون أن تريد ذلك بالطبع، تهديد مستقبل زوجها كريم «حسن رداد»، وهو بدوره صحافي ناجح في إحدى الصحف الحكومية، ويحلم بأن يصبح رئيس تحريرها عبر تقديم تنازلات. فالشهرة والأضواء والكافيار مسألة مهمة في حياة الأشخاص الناجحين في هذا العصر، إلا أن إصرار زوجته على النبش في قضايا تلحق الأذى بمصالح «أولي الأمر» الذين يقبعون في الأدوار العالية، يعكر عليه تحقيق حلمه ما يجعله يخوض نقاشات مطولة معها قبيل الاصطدام بها، فتخيم البرودة على حياتهما الزوجية، وفيها كل مستلزمات العيش الهانئ، وهما قد ارتبطا بنتيجة علاقة عاطفية أصلا. يجيء هذا الاصطدام بالرغم من معرفته ـ كما يصرح لها ـ بأنها على حق بكل ما تقوم به، ولكن الزمن تغير، ولم يعد للحق مكان فيه. تتنازل هبة يونس أمام طموحات زوجها الجامحة، وتوغل في عالم التوك شو من خلال تناولها في برنامجها قضايا اجتماعية وحشة كما يقول لها كريم تعليقا على إحدى هذه القصص، مستعينة بمصوب الكاميرا التلفزيونية، وجمهور هذه النوعية من البرامج. الجمهور المطلوب منه أن يصفق في الأستوديو لصالح هذه الإجابة أو تلك.
هذه النقلة النوعية في حياة هبة تؤكد أن المقدمة اختارت هذا الأسلوب العمومي لتواصل خدشها للحياء الاجتماعي من خلال زاوية أخرى، اذ سرعان ما سنكتشف أن إقبالا على هذه النوعية من القصص الفضائحية تمجد بشكل أو بآخر جماهيرية التلفزيون، وأن شهية الجمهور تتوسع أمامها أكثر فأكثر، فهو ينجح بإشباع رغباته (التلفزيون) بهذه النوعية.
يختار يسري نصر الله في فيلمه الجديد أسلوبية ألف ليلة وليلة في رواية قصص بطلاته، ويتناول عيشهن في مجتمع الرجال وازدواجية تعاطيه معهن. فهذا الخبير الاقتصادي القادم من جامعة ميتشغن «محمود حميدة»، الذي يقترن بطبيبة يطالبها بمبلغ ثلاثة ملايين جنيه تعويضا عن الاهانة التي ألحقتها به عندما حملت منه لأنه كما يخبرها، في لحظة تبجح وإسفاف، أنه عقيم. قصة واحدة من قصص ألف ليلة وليلة معاصرة أهم ما يميزها هو الخصوصية في محتواها الرمزي الذي تذهب إليه، وليس في طبيعة القصة ذاتها، اذ يمكن لنصر الله الذي اختار مبدأ شهرزاد البطولي الخالد أن يقطع في المكان والوقت المناسبين، لأنه لا يجوز أن يقال كل شيء دفعة واحدة. يقول أندريه بازين: لو قالت شهرزاد قصصها في ليلة واحدة، فإن شهريار لا يقل تجبرا عن الجمهور. بالتأكيد كان سيأمر بقطع رأسها على عجل، ولشهريار وللجمهور ينبغي القطع في مكان ما. بالضبط يجب القطع في الحكايات، وهذا ما تفعله هبة يونس (بحسب السيناريو). فهي تختار نماذجها الدرامية لتقول لنا أشياء عن التيه الاجتماعي والنفاق والظلم ومحاولات الرجل الغاشمة في محاولات إطباقه على الأنثى المسحوقة، فهذه إحداهن… تكتشف أن من أحبته واستسلمت له كان قد سبق له وضاجع شقيقتيها ما يضطرها إلى قتله.
ما يفعله يسري نصر الله في تنقيل بطلاته في أماكنهن ليس أكثر من مبدأ تحدث عنه بازين نظريا، وهذا ما يقوم به نصرالله في انصرافه إلى تناول نسائه من خلال برنامج تلفزيوني تطل منه هبة يونس، لأنه يمكنها من خلال هذه الاتصالية المحمودة أن تدفع بالجميع ليحسوا بالقوة الكامنة في سحر القص. فهم يريدون التلذذ بحلاوة الأسلوب، وليس في القصة بحد ذاتها، فهي تظل قصصا وحشة ولا يريد لأحد الاقتراب منها، ولكن
الأسلوب يبدل من نمطية حياتهم في طريقة الاستماع والمشاهدة، ومن وقت إلى آخر يمكن قطع غفوة هذا الحلم الأنثوي البشع بمونتاج ذكي. فالمهم في حالة ألف ليلة وليلة ليس القطع في مكان مهم وانتظار التتمة كما يفترض، بل المبدأ الحكائي بوصفه قصة مع تتمة.
ربما نجد في اقتراب المخرج من بطلاته بلقطات مقربة كثيرة ما يؤكد أن مبدأ شهرزاد في ،الحكي يقوم على حجروية قد تبدو وكأنها تتناقض للوهلة الأولى مع جماليات السينما ولكن هذا الواقع الكثيف من حول البطلات يتبدد مع انكشافهن أمام صدمة القص. هاهي الشابة التي تعمل في محل للعطور وتقضي جلّ وقتها في التبرج والتجميل ما إن تغادر مكان عملها إلى مكان سكناها بين العشوائيات حتى تعود طائعة إلى الحجاب. الحجاب الذي تصفه سوسن بدر بأنه ليس ذلك الذي يوضع على الرأس، بل هو ذاك الذي يوضع على العقل. الحجاب حجاب العقل، وهو بحاجة إلى «هتك»، وهذا ما يفعله يسري نصر الله في عالم الأنثى المضطرب من حوله. العالم المصدوم بفجاجة ذكورية لا مثيل لها، اذ غالبا ما تتكرر كلمة كافيار في الفيلم رمزا لها. كلمة لها معناها في هذا العالم الذي يقوم في معظمه على تقبيح عالم شهرزاد بمخلفات الذكورة الباطلة. وما وجدناه أن عالم هبة يونس لا يعود ينفع معه سؤال الصحافة الذكورية المعقمة، صحافة أولي الأمر، عن الشيء الذي تريده، بل عن الشيء الذي يريده جمهور التوك شو التلفزيوني وهو يقبع عند المدرجات المخصصة له للتصفيق عند أول سؤال تلقي به المقدمة في وجه ضيفتها، أو عند إجابة لا تقل ذكاء يمكن للضيفة أن تلقي بها في وجه المقدمة التي يمكنها أن تهرب من إحدى كاميرات الأستوديو وتشيح بوجهها وقد غزته دمعة حارقة في لقائها مع الطبيبة التي تنازلت عن حملها من الخبير الاقتصادي المهان «في إشارة رمزية بالغة الأهمية» لأنها لم تعد مهيأة له.
«احكي يا شهرزاد» يستفيد في حكاياته الأنثوية من كل لقطة على حدة ليصنع منها فيلما ينتصر للأنثى، ويقلل بالمقابل من حجم خيبات شهريار الذي أنصت طويلا لذكورته، فبدا فجّاً وعقيماً وهو يقوم بقطع الرؤوس على طريقته. هاهنا ينجح يسري نصر الله بالتخفيف من غلوائه، يفقده ذكورته، وينتصر لشهرزاد. يرفع من شأن السينما باستخدامه ذريعة طالما انكب عليها التلفزيونيون في مناطق نفوذهم. تقول شهرزاد قصصها وتسمح بالقطع في الأماكن الأثيرة عندها، فاللعبة لعبتها، والسحر هنا يجرد شهريار من أسلحته الفتاكة، لأن المخرج وحده من يمكنه التأكد من سلامة القطع ودقته، وهذا ما فعله في لحظة استجواب شهريار في آخر مشاريعه الذكورية الفظة.