د. نوال السعداوى
اكتبي يا ابنتي ولا تبالي بالمدح أو الذم أو قضبان الحديد. إذا كان القانون غير عادل اكسريه… إذا كان العقل سجنك أطلقيه….إذا كان الجسد قبرك حطميه. …لا تهادني لا تخافي لا تنافقي السلطان والعبيد….لا تنظري وراءك لا تستسلمي لشهواتهم لا تكوني عشيقة أو جارية أو ملك اليمين، لا تكوني واحدة من زوجاتهم ولا سكرتيرة المكتب أو خادمة السرير، لا تقرئى أخبارهم وسهراتهم وجوائزهم فى مهرجانات الشعر والأدب الخليع، اكتبي يا ابنتي اكتبي.
أشهري قلمك صفعات حادة فى وجوه الجميع، ارفعى رأسك وافخرى بقصيدتك وقصتك وسيرتك الذاتية وروايتك وكل ما تكتبين، لا تدخلى بورصة الأدب، بؤرة الذكور العجائز، يحلمون بالعذراوات الحور العين. تركبين سيارتهم وشهرتهم وفلوسهم، يستعبدونك باسم الأدب أو الحب أو الأبوة والحنان، تدقين لهم على الكمبيوتر، يمنحونك مقابل الصفحة أو الليلة أكلة لذيذة أو شقة من غرفتين أو جائزة الدولة التشجيعية، أو درجة الماجستير أو الدكتوراة، يكتبون عن إبداعك غير المسبوق مقالا غير مسبوق، فى الجريدة القومية الكبرى، تحققين طموحك الأدبى مقابل ليال قليلة من الهوان، يطفئون شبابك فى شيخوختهم المشبعة باليأس، وأمل الفياجرا الهش، يجددون شبابهم كما يجددون زوجاتهم، كما يجددون قطع الغيار فى السيارة أو الغسالة، يتهمونك بالفحشاء إن تطلعت إلى شاب من عمرك أو ساورك حلم الاستقلال أو الحرية.
تحررى منهم لا تخافى ألسنتهم الطويلة، وأيديهم الأطول، وأقلامهم الأكثر طولا، تنهش سمعتك إن خرجت من تحتهم، إن ارتفعت قامتك فوق قامتهم، إن كشفت عوراتهم، وفضحت أسرارهم، أو رفعت الغطاء عن فسادهم، المستور تحت دخان المباخر والتعاويذ المقدسة.اكتبى يا ابنتى اكتبى، لا تخافى حصونهم وقلاعهم ونفوذهم، لا تفزعك أقوالهم عنك والاتهامات، لا تبالى إن حذفوا اسمك من قوائم الأدباء والأديبات، والشعراء والشاعرات، إن أخرجوك من زمرة النساء، إن جعلوك مسخا بلا هوية لا اسم ولا دين ولا وطن، اكتبى يا ابنتى بالقلم فوق الورق أو بلا قلم بلا ورق، اكتبى بقطعة حجر فوق جدران السجن، فوق حائط المطبخ أو المرحاض، فوق الأرض الجرداء فى الصحراء، فوق سطح القمر والشمس،
اكتبى بدمك فوق أى سطح، اكتبى عن السجينات تحت النقاب وأحزمة العفة الزائفات، والرجال الطلقاء كالبغال فى سوق البغاء وتعدد الزوجات، اكتبى عن الأطفال غير الشرعيين فى الشوارع بالملايين، يتحملون عقوبة الفحشاء عن آبائهم، يرث الابن الفحش عن الأب والجد، ترضع الأم المقهورة لبنها المسمم بالذل والخوف للمواليد، تصبح روابط الدم ورضاعة الكبير والصغير جواز مرور إلى الجنة أو النار.
اكتبى يا ابنتى لا تبالين بما يكتبون أو ما لا يكتبون، ما يقولون وما لا يقولون، شتائمهم فوق صدرك نياشين، صمتهم عن إبداعك وسام أكبر، يريدون منك أن تكونى مثلهم، تخافين السلطان ونار الجحيم، تبيعين نفسك من أجل الصعود إلى قمة الهرم، اكتبى لا تخافى السفح أو السفاح، أو الطلاق أو الفراق أو الزوجة الرابعة، أو قضية حسبة وسوء السمعة، أو قراراً بالاعتقال أو النفى أو الرجم.أجعلى إبداعك بلا حدود، اكسرى الحدود، تجاوزى الخطوط الحمراء والصفراء، لا تهابى، ابداعك إعصار يعرى أوكار الفساد، يكتسح قلاعهم وحصونهم، لا يمكن لقوة أن تكسر قلمك، أو إزالة كلماتك من وجه الأرض والسماء، إبداعك يتجاوز زمانهم ومكانهم، وثوابتهم ومتغيراتهم، يرسم المستقبل الغيب المجهول لديهم، يخافون كلماتك الجديدة، يخافون النور وضوء الشمس، مثل الخفافيش لا يتحركون إلا فى الظلمة، من وراء العقل ومنطق العدل،
أنت الفائزة فى المعركة الأخيرة، هم مهزومون يجترون الخيبة والخواء، صراخهم رعد جاف دون المطر، أرضهم بور لا تنبت الزرع، خيولهم مريضة بالإيدز وفيروس الخنازير، سيوفهم فى الهواء مثل قصورهم بعد الموت، بيوتهم مليئة بالملل والضجر، زوجاتهم نادمات فى نهاية الأجل، يتخلى العجوز منهم عن امرأة خدمته العمر، يهجرها إلى فتاة صغيرة تقوده مفلسا إلى القبر.
اكتبى يا ابنتى، لا تنتمى إلى شللهم ونواديهم، أو جماعاتهم وأحزابهم وصحفهم وإذاعاتهم، أو يمينهم أو يسارهم أو الوسط، أو يمين الوسط ويسار الوسط، ووسط الوسط، لا تمسكى العصا من الوسط، لا تلوكى كلماتهم المكررة القديمة، لا تسبّحى بحمدهم ونعيمهم، لا تسْبحى معهم كالسمك الميت مع التيار، لا تجامليهم لا تخاطبيهم لا تبنى بينك وبينهم جسرا، ارفعى رأسك عاليا وعقلك أعلى من رأسك، وظهرك ارفعيه عن آخره، لا تنحنى لأى عاصفة، عواصفهم مثل سيوفهم هواء فارغ من هواء، نزوات عابرة زوبعة فى فنجان، يتردد صداها فى أقمار صناعية مصنوعة، وقنوات فضائية لا تفضى لشىء، كلام فارغ من الكلام، رجال بورصة وأعمال، لا عمل لهم ولا جهد، إلا الضرب تحت الحزام، المزايدة فى المزايدات، الكسب السريع فى السوق الحرة، التجارة بالدين والدنيا، الربح المخطوف من فم الأطفال والأمهات الكادحات، فى الأرض والسماء، وعشش الزوجية الهشة.
كتبت بالأمس هذه الرسالة إلى واحدة من بناتى الكاتبات الجديدات، أمسكت قلمها ذات يوم وكتبت قصيدة شعر من بنات أفكارها، فى اليوم التالى رأت اسمها فى قائمة الموت والاغتيالات، وقوائم المتهمين فى قضايا الحسبة والخروج عن المعلوم من الدين، وسجلات وزارة الداخلية فى بوليس الآداب، وصلتها ورقة الطلاق فى البريد من زوجها الوحيد، وصورة حفل زفافه لفتاة أصغر من ابنته، وحصوله على الجائزة الكبرى فى الأدب والعلم والإيمان،
أصابها الاكتئاب والحزن العميق، ذهبت إلى طبيب نفسى أخذ مائتى جنيه وكتب لها أقراصاً زادتها حزنا واكتئابا، ألقت بالزجاجة فى صفيحة القمامة، ثم أمسكت دليل التليفون تطلب بعض الأقرباء والقريبات، تبددت الأسرة فى الهواء، الأبناء مشغولون بزوجاتهم وأطفالهم عن الأم، اختفى الأصدقاء والصديقات فى غمضة عين، تغلب الخوف من سطوة الدولة والدين على صداقات العمر، وصلات الرحم.
أخيرا رن الجرس فى بيتى، سألتها من هى؟ قالت واحدة من بناتك الكثيرات، اعذرينى نسيتك فى غيابك الأخير، اعذرينى لم أتصل بك ولم أكتب كلمة تساندك فى غربتك، رغم أن كتبك غيرت حياتى وشجعتنى على الإبداع، لكنهم خوفونى منك، قالوا إنك تنشرين الرذيلة وتعدد الأزواج والجنس قبل الزواج، وأنك تكتبين للغرب والأعداء،
كنت أعرف أنهم كذابون، لكنى أصبحت أخاف منهم، أخاف أن ينالنى من الأذى ما نالك، أن أتلقى من الضربات ما تلقيت، أن يطلقنى زوجى وينبذنى الأقارب والأغراب، أن أفقد عملى ومورد رزقى، أن تسوء سمعتى فى صحفهم ومجلات الأدب، يتجاهلون أشعارى وكتاباتى، يغتالون شخصيتى وتسوء سمعتى، وقد يرفعون ضدى قضية عن جريمة كافكاوية لم أقترفها.أعترف لك أننى لست وحدى، هناك الكثيرات مثلى، نشعر بالأسف والخجل منك، تخلينا عنك وأنت التى فتحت أمامنا طريق الإبداع والشجاعة، فتحت عيوننا وعقولنا على معنى الحرية والكرامة والعدل، وقد سرنا فى الطريق، دفعنا ثمن حريتنا غاليا، لكن مهما ارتفع ثمن الحرية يظل أقل من ثمن العبودية، أليست هذه عبارتك الأولى فى أول كتاب لك؟
كتابك الأول الذى أهديته إلى أمك فى كلمات قليلة نادرة: «إلى زينب شكرى، المرأة العظيمة التى عاشت وماتت من أجلى، دون أن أحمل اسمها، أمى».
صباح اليوم قرأت خبراً صغيراً عن ديوانها الجديد، فى الصفحة الأخيرة من مجلة أدبية، وصورة لها تبتسم فى زهو، قلت لنفسى، لا شىء يضيع أبدا، لا شىء يضيع