بقلم: حاتم حافظ
طالعنا صور احتفال أقيم بإحدى المدارس الخاصة لتكريم فتيات ارتدين الحجاب مؤخرا، وفيما يبدو فإن مثل هذه الاحتفالات تقام دوريا في المدرسة لتشجيع الفتيات على ارتداء الحجاب. تبدو هذه المدرسة وهذا الاحتفال رحيما طبعا بالمقارنة بالمدارس الحكومية – خصوصا الريفية منها – التي ليس لديها الصبر لانتظار أي فتاة لتختار، فالحجاب مُلزم للطالبات مثله مثل لون القميص!
الفارق بين المدرستين أن الأولى مدرسة دولية يدفع أولياء الأمور أموالا كثيرة ليحافظوا على كرامة أبنائهم، وبحكم هذا الاتفاق فإن المدرسة تحترم إرادة الفتاة، لكنها فيما يبدو تحترم إرادة الفتاة في أن تتحجب أكثر من إرادة الفتاة في ألا تتحجب. والمحصلة النهائية تكاد تكون هي نفسها. ولنا أن نتخيل فتاة غير محجبة تجلس في الصف لتشاهد زميلتها بينما تقوم مديرة المدرسة بتتويجها – حرفيا لا مجازا – لمجرد أنها غطت شعرها!
ولا يمكن مقارنة هذا الاحتفال باحتفال تكريم الطلاب المتفوقين لسبب بسيط وهو أن الأخير يكون بغرض تشجيع الطلاب على (التفوق) ومن ثم على بذل جهد أكبر، بما يعني تشجيعهم على تبني قيم الاجتهاد والعمل كأساس للتفوق ومن ثم فإنه يدعم شخصياتهم الفردية ويؤسس لديهم مبدأ المسئولية لأن الطالب سوف يفهم أن لكل (مجتهد) نصيب، فيما أن اختيار الفتاة لأن تتحجب لا علاقة له بأي اجتهاد منها. هنا الفتاة يتم تكريمها على اختيار ما تم اختياره لها من قبل، ولا يمكن المحاججة بأن تكريم الفتاة هنا من أجل اختيارها للعفة مثلا لأن ما من عاقل يمكنه الآن أن يدعي أن الفتاة غير المحجبة أقل عفة من قرينتها – بالمناسبة خصوصا في مثل هذا المدارس لن يجرؤ أحد على مثل هذه الحجة وإلا سوف يخسرون أموالهم!
فكرة هذا الاحتفال أو غيره مؤسس على وجود (نمط) وحيد أو نموذج مثالي للإنسان يتم تكريمه أو وصمه بحسب الابتعاد أو الاقتراب منه. أي أن هذا الاحتفال يتأسس أولا على وجود هذا النمط أو النموذج وبالتالي على افتراض أن القيم سابقة على وجود الإنسان، وما أن يوجد حتى يكون عليه الاختيار ما بين الالتزام بها ليلقى الترحيب من المجتمع وما بين عدم الالتزام بها ليتم نبذه اجتماعيا، ومن ثم فإن ذلك يلغي أي اختيار حر وبالتالي يلغي فكرة الفردية من أساسها.
الحقيقة أن كل مجتمع لديه هذا النمط أو النموذج، فالحياة ليست بقدر التسامح الذي ننشده، لكن الفارق بين المجتمعات التي عرفت النضج وتلك التي توقف نموها هو أن الأولى تحتفي بالتنوع وتشجع على الاختلاف و(تقاوم) فكرة النمط أو النموذج، بينما تستسلم الأخيرة للنمط والنموذج دون أن تتوقف ولو للحظة للتفكير في مدى صلاحيته، ففيها كل ما هو شائع شرعي وصاحب جدارة. وتكفي الإشارة مثلا إلى أن مسألة الحجاب هي الأولى في مؤشرات البحث على الانترنت لضرب هذه الفكرة من أساسها: فكرة كل ما هو شائع صاحب جدارة. لأن القلق الذي يدفع الناس للبحث وراء المسألة يزعزع أي يقين بجدارة ما هو شائع وباستحقاق النمط والنموذج.
المسألة هنا ليست إذا ما كان على البنات أن يتحجبن أو لا، فالبداهة تقول إن من حق كل منهن أن تختار حياتها بداية من عقيدتها وحتى طول أظافرها. لكن المسألة الحقيقية في أن تنميط البنات يلغي عقولهن من جهة ومن جهة أخرى يقلل من قيمة اختيارات الأخريات، بمعنى أن المدرسة – أي مدرسة – المفترض أن تكون ضمن مهامها تشجيع الطالب على أن يكون إنسانا حرا ومواطنا صالحا، ومن ثم فإن اختيار فتاة ما أن تكون محجبة من المفترض أن يكون – لدى المدرسة – مساويا في القيمة لاختيار فتاة أخرى أن لا تكون محجبة، كتساوي الاختيار بين أن تكون مسلمة أو مسيحية وكتساوي الاختيار بين تفضيل علم الرياضيات على علم الفيزياء بالمناسبة، لأن الفتاتين معا قد حصلتا على فرصتهما في الاختيار الحر الواعي.
في فيلم شبه نسوي اسمه ابتسامة الموناليزا تشجع المُدرّسة كاثرين واطسون تلميذاتها على ألا يخضعن للنمط الصارم للفتاة المثالية التي تحرص عليه المدرسة ومجتمعها ومن ثم يسلبهن أي اختيار واع (رغم أن ذلك الحرص لم يمنع انتشار وسائل منع الحمل بين التلميذات بالمناسبة!) ويسلبهن أيضا حقهن في التعليم الجامعي. واحدة من تلميذاتها تختار طواعية ألا تستكمل تعليمها وتختار طواعية أن تكون زوجة وأما. في حوار بينها وبين كاثرين واطسون تؤكد لها أنها لن تفعل ذلك استسلاما لتنميط المجتمع وفكرته عن الفتاة المثالية ولكنها تفعل ذلك لأنها – بعد أن استوعبت درس الحرية – اختارت أن (الأنسب لها) هو البقاء في البيت كزوجة وأم. المُدرسة النسوية كاثرين واطسون يتبدد شعورها بخيبة الأمل لأنها اطمأنت أن تلميذتها (فكرت – بحرية – وباستقلالية – واختارت)، لأنه بديهي أن ذهاب كل التلميذات للجامعة سوف يكون نمطا بديلا وليس اختيارا حرا.
قصدت ذكر المثال الأخير لسبب وحيد هو التدليل على أن دفاعنا عن حرية الفتاة في اختيار زيها لا يعني أن لدينا – نحن الذين نقاوم سعودة مصر وتخلفها – نمطا أو نموذجا بديلا – على الأقل ليس لدينا تصور ما عن الزي المثالي، لكننا ضد فكرة النمط والنموذج من أساسه، ومع فكرة الحرية والاختيار، لهذا فإن رغبتنا في أن تحصل المرأة على حقها في الاختيار لا يعني رغبتنا في أن تختار المرأة اختياراتنا وإنما أن تختار اختياراتها هي وحدها كإنسان وليس كتابع أو ككائن درجة ثانية.