ما الحاجة إلى وثيقة لحقوق الإنسان في مصر بالشكل الذي طرحه مرشح الرئاسة محمد البرادعي؟
في ظني حفزت ثلاثة نقاط البرادعي على إصدار هذه الوثيقة:
الأولى: الأولى التأكيد على مدنية الدولة بما تعنيه هذه المدنية بضمان التمتع بحقوق وحريات يخشى عليها من قبل قوي الإسلام السياسي خاصة الإخوان المسلمين والسلفيين.
الثانية: هو محاولة تحجيم مساحة النفوذ السياسي للمؤسسة العسكرية لما بعد المرحلة الانتقالية. وأن هذه المؤسسة مثل باقي مؤسسات الدولة تخضع لإشراف سياسي من قبل الهيئة المنتخبة.
الثالثة: هي حاجة سياسية بمعني تمرير مطلب الدستور أولا الذي ينادي به البرادعي (وقوى ليبرالية ويسارية أخري) من بوابة حقوق الإنسان.
النقطة الأخيرة هي الخلاف الأخلاقي مع الوثيقة. يوظف البرادعي حقوق الإنسان من أجل هدف سياسي في صراعه السياسي، وهو صياغة الدستور أولا. ومن ناحية ثانية يحاول هو وعناصر حملته اختطاف إدارة دفة النقاش السياسي في البلاد باقتراح منفرد لوثيقة محملة بمزيج من الانطباعات العامة للطبقة الوسطى المصرية مع مزجها بأيدلوجية ليبرالية.
سؤالي للبرادعي: لماذا لا تكون المسودة المطروحة مجرد وثيقة دستورية دون هذا الصخب المتمثل في تسميتها بحقوق الإنسان؟ ولماذا لا يتشارك في صياغتها-أقول صياغتها وليس مناقشتها- قطاعات أخري من قوى الثورة (الائتلافات واللجان الشعبية) ومن غير قوى الثورة أيضا مثل الأحزاب القديمة.
هنا بعض النقاط حول الوثيقة التي أظن أنها كتبت على عجل.
تنقسم الوثيقة إلى بابين، الأول بعنوان مبادئ أساسية ويشمل 6 مواد توصف طبيعة الدولة ونظامها، وتتحدث عن المؤسسة العسكرية. أما الباب الثاني فيحمل عنوان ” الحقوق الأساسية” ويشمل 11 مادة.
في المادة الأولى من “مبادئ أساسية” ، جازف البرادعي في جعل سيادة الشعب مساوية للانتخابات. أنا لا أعرف من الذي صاغ الوثيقة لكنني أجزم أنه لم يدرس النظرية السياسية، لأنه لو فعل لميز بين أنواع السيادة سواء كانت السيادة الشعبية أو مبدأ السيادة البرلمانية. عموما هذا نقاش مختلف. لكني أحيل هنا إلى مقال قصير لجون كول حول سيادة الشعب كما عبرت عنها الثورات العربية. حسب كول فهذه السيادة هي رغبة الشعوب في ممارسة حقها في تقرير شكل نظامها السياسي (وليس فقط في الانتخابات).
في المادة 2 التي تنص على ” الاسلام دين الدولة، واللغة العربية لغتها الرسمية، ومبادئ الشريعة الاسلامية المصدر الرئيسى للتشريع”.” حاول المرشح الرئاسي التحلي بالبرجماتية وتحاشي الصداع من وراء هذه المادة التي سببت استقطابا مجتمعيا في الاستفتاء على التعديلات الدستورية. لكن السؤال المنطقي: ما هي علاقة وثيقة تقول إنها حقوقية ومصادر التشريع؟
نبقى مع “مبادئ أساسية” ومع المادة 5 التي تنص على “القوات المسلحة درع الشعب وحامية السيادة الوطنية، وهي التي تتولى الدفاع عن استقلال وسلامة الوطن ضد الأخطار الخارجية، وتتولى القوات المسلحة وضع وتطوير ومراجعة النظم التي تكفل تحقيق هذا الهدف “.
خصص دستور عام 1971 أربع مواد للحديث عن القوات المسلحة. أهمهم المادة 180 التي تنص على “الدولة وحدها هي التي تنشئ القوات المسلحة، وهي ملك للشعب، مهمتها حماية البلاد وسلامة أراضيها وأمنها، ولا يجوز لأية هيئة أو جماعة إنشاء تشكيلات عسكرية أو شبه عسكرية.ويبين القانون شروط الخدمة والترقية في القوات المسلحة.”
هل لاحظتم الفارق؟
الرجل الذي يريد أن يقيد من نفوذ القوات المسلحة يعطيها ما لم يمنحه لها دستور 1971، يعطيها الحق في “وضع وتطوير ومراجعة النظم التي تكفل تحقيق هذا الهدف.” ما معني هذه الصياغة؟
المعني المباشر هو أن لـ “المجلس العسكري للقوات المسلحة” مطلق الصلاحية في توجيه بوصلة العلاقات الإستراتيجية المصرية في أى اتجاه يراه. هناك مثلا من يرفضون ذلك التحالف الاستراتيجي مع الولايات المتحدة ومنطق التقارب المصري مع الأحلاف الإستراتيجية الغربية. لا يحق لي إذن كمواطن أو كعضو في هيئة تشريعية أن أناقش طبيعة هذه التحالفات وذلك لأن المجلس العسكري يحتكرها بموجب وثيقة البرادعي.
في ظني أن البرادعي يريد عقد صفقة مع الجيش بمقتضاها يقر فيها المرشح الرئاسي بوضع مميز للقوات المسلحة في مقابل ضمان تفعيل صيغة الدستور أولا. ربما يكون هذا عمل شرعي في العمل السياسي، لكن أن تعقد الصفقات في وثيقة حقوق إنسان، فهذا أمر غير مفهوم؟
في المادتين 2 و3 (من الباب الثاني “الحقوق الأساسية”) يقيد البرادعي ممارسة حقوق الرأي والتعبير والتجمع السلمي والعقيدة بـ “على أن تمارس هذه الحقوق دون الإخلال بحقوق الغير”. ما المعني من هذا القيد؟ الأصل في الأشياء الاباحة. هذا ناهيك عن أن صياغة المواد بمثابة نكوص عن الصياغة التي شملها دستور 1971. في المادة 46 من الدستور الذي اسقطته الثورة صيغة قاطعة في سياق حرية المعتقد “تكفل الدولة حرية العقيدة وحرية ممارسة الشعائر الدينية.”.
أما المادة 47 من الدستور السابق فجاءت في صياغة مطاطة ومقيدة بقانون. كان من المفترض أن تكون: “حرية الرأي مكفولة، ولكل إنسان التعبير عن رأيه ونشره بالقول أو الكتابة أو التصوير أو غير ذلك من وسائل التعبير في حدود القانون، والنقد الذاتى والنقد البناء ضمان لسلامة البناء الوطني.
ما أتعجب منه هو أن الوثيقة تزعم أنها حقوقية، فلماذا إذن لم تأخذ روح النص الخاص بحرية المعتقد في المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تقول:
لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.
وكذلك من نص المادة 19 الخاصة بحرية الرأى والتعبير من نفس الإعلان
لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكار وتلقيها وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية
نقطة أخري تتعلق بنضال المصريين المستميت نحو الكرامة وعدم التعرض للتعذيب. في المادة 4 من الوثيقة يكتفى البرادعي بالقول إن: ولا يجوز بأي حال تعريض أي شخص للتعذيب أو المعاملة الحاطة بالكرامة.
هل هذا يكفى؟
يقدم الدستور العراقي درسا في صياغة مثل هذه المواد، ففي الفصل الثاني من الدستور (المعنون بالحريات) وفي المادة 35، نجد صياغة محكمة تقول:
اولاً:
أ ـ حرية الانسان وكرامته مصونة.
ب ـ لايجوز توقيف احد او التحقيق معه الا بموجب قرار قضائي.
ج ـ يحرم جميع انواع التعذيب النفسي والجسدي والمعاملة غير الانسانية، ولاعبرة بأي اعتراف انتزع بالاكراه او التهديد او التعذيب، وللمتضرر المطالبة بالتعويض عن الضرر المادي والمعنوي الذي اصابه، وفقاً للقانون.
ثانياً : تكفل الدولة حماية الفرد من الاكراه الفكري والسياسي والديني.
ثالثاً: يحرم العمل القسري” السخرة“، والعبودية وتجارة العبيد”الرقيق “، ويحرم الاتجار بالنساء والاطفال، والاتجار بالجنس.
أيضا، المادة 5 التي تنص على ” لكل مصري حق التملك بمفرده أو بالاشتراك مع غيره، ولا يجوز تجريد أحد من ملكه بدون سند من القانون أو تعسفاً”.
لماذا حصر البرادعي الملكية في نمط واحد هو الملكية الخاصة؟ السبب هو منهج الليبرالية الاقتصادية الذي تنطق له الوثيقة. دستور 1971 في المادة (29)، ميز ما بين أنواع للملكية وهي: ملكية عامة، ملكية تعاونية، ملكية خاصة.
نأتي إلى المادة الكارثية التي تتعلق بالتعليم، فبغض النظر عن الغموض المتعمد في صياغة المادة 8 إلا إنها تعني بوضوح إلغاء مجانية التعليم. سيقال إن الوثيقة نصت على “وتلتزم الدولة أن يكون التعليم في مؤسساتها التعليمية في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان. ، وأن يكون التعليم الأولي إلزامياً”
هنا البرادعي يرجع للوراء 90 سنة لم يقدم جديد على نص المادة 19 من دستور 1923 الذي يقول: التعليم الأولى إلزامي للمصريين من بنين وبنات. وهو مجاني في المكاتب العامة…
نص المادة في الوثيقة عبارة عن ردة للوراء عن نص المادة مادة 20 من دستور 71 التي قالت بوضوح أن: التعليم في مؤسسات الدولة التعليمية مجاني في مراحله المختلفة. بمعني آخر البرادعي خفض من نطاق مجانية التعليم (يعني إلغاء المبدأ). الفقرة التالية في المادة 8 من وثيقة البرادعي تنص على: وأن يكون القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة وبصرف النظر عن القدرة المالية… لكن الواقع يقول إن التعليم الجامعي في مصر قائم على أساس الكفاءة يعني مكتب التنسيق. حتى لو اختقفنا مع مكتب التنسيق فهو في النهاية يعطى مؤشر (طال جاب 60% موش هيدخل طب القصر العيني أو سياسة واقتصاد جامعة القاهرة). الصيغة بهذه الطريقة تعني فرض رسوم على التعليم الجامعي يستثني منها فئة ما يسمي “بالمتفوقين ممن لا يتمتعون بالقدرة المالية”
سيقول البعض أن المادة في روحها مستعارة من المادة 26 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنص على:
لكل شخص الحق في التعلم، ويجب أن يكون التعليم في مراحله الأولى والأساسية على الأقل بالمجان، وأن يكون التعليم الأولي إلزامياً وينبغي أن يعمم التعليم الفني والمهني، وأن ييسر القبول للتعليم العالي على قدم المساواة التامة للجميع وعلى أساس الكفاءة.
لكن الطريقة التي صيغت بها هذه المادة جاءت كحل وسط لترضية جميع الأطراف المشاركة في صياغة الإعلان العالمي لحقوق الإنسان (دول رأسمالية دول اشتراكية). لكن في حالة البرادعي هذه الصياغة تعني الردة عن حق “مجانية التعليم الجامعي” وإلا لماذا لم يقلها صريحة؟
تدغدغ صيغة المادة كما وردت في وثيقة البرادعي الانطباعات التاقهه لأفراد الطبقة الوسطى المصرية من حيث الفشل المدوي لنظام التعليم المصري. وهذه الانطباعات تتجاهل أن السياسات التعليمية حتى في دول العالم الأول تواجه أزمة فعلية. مثال على ذلك الانتخابات البرلمانية البريطانية والتي وجه حزب المحافظين فيها اتهامات قاسية لحزب العمال مضمونها مسئولية الأخير عن تردي النظام التعليمي في البلاد.
كما تتجاهل هذه الانطباعات حقيقة أن التعليم العالي المجاني هو تقليد لم ينكص عنه أحد في دول عدة مثل الأرجنتين، البرازيل، الصين، الدانمرك، فنلندا، اليونان، سكوتلندا.
كما أنها تتعسف في ربط تدهور التعليم الجامعي بالمجانية، على الرغم من وجود أمثلة تثبت عكس ذلك بكثير.
(تلقيت تعليمي الجامعي المجاني في قسم العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية وهي بكل المقاييس أفضل من قسم العلوم السياسية بجامعة 6 أكتوبر الخاصة، ولا تقل بأي حال عن قسم العلوم السياسية في الجامعة الأمريكية).
هنا البرادعي يتواطأ مع عناصر الطبقة الوسطي المصرية في محاولة لوضع فيتو على الحراك الاجتماعي في البلاد.