تزامنًا مع شهر مارس الجاري وما يتضمنه من أيام عالمية ووطنية لتخليد أدوار النساء في الدفاع عن حقوقهن ومناهضة التمييز، يكمل منهاج بيچين ثلاثين عامًا منذ انطلاقه وتستمر المتابعات الوطنية والإقليمية والدولية لمراجعة وتقييم مدى التزام الدول بالمحاور وقياس تحديات تفعيله. وفي ضوء ذلك، نحاول من خلال حملتنا “بكين بالمصري” تسليط الضوء على واقع النساء في ظل استمرار العنف الهيكلي على المستوى الوطني وكذلك الإقليمي من قبل ممارسات الاحتلال. حيث يبرز الواقع الحالي معطيات من شأنها إثبات أن مبادئ مناهضة العنف والتمييز وتحقيق المساواة النوعية لا يمكن أن تتحقق في ظل سياسات التقشف والديون، وواقع الاحتلال الشرس، والعنف القائم على النوع الذي يعزز من تفشيه الأنظمة الاستعمارية والبنى المجتمعية في بلداننا.
بعد ثلاث عقود من إعلان منهاج بيجين، لا تزال النساء في دولنا تعاني من سياسات اقتصادية نيوليبرالية رسّخت من الفقر والفجوات الطبقية، وساهمت في تعزيز واقع العنف والتمييز الذي تعاني منه النساء في المجال الخاص، خاصةً في نطاق اقتصاد الرعاية والاقتصاد غير الرسمي، وتهميش وعزوف النساء عن المجال العام، حيث تكشف البيانات عن ارتفاع معدل التضخم السنوي في مصر إلى 31.9% وفقًا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في فبراير 2024، مما أدى إلى تفاقم أوضاع النساء الفقيرات، خاصة مع استبعاد نسبة كبيرة من المستحقات من برامج الحماية الاجتماعية مثل “تكافل وكرامة”.
وبالرغم من أن 76% من المستفيدات من البرنامج نساء، إلا أن هذه المساعدات النقدية لا تعوض غيابهن عن سوق العمل الرسمي، حيث تواجه النساء صعوبة في الحصول على وظائف آمنة، وتعتمد غالبية العاملات على العمل غير الرسمي الذي يفتقر إلى أية ضمانات تأمينية. كما أن استمرار القوانين التمييزية مثل استثناء عاملات الزراعة والخدمة المنزلية من قانون العمل الموحد، وتجاهل التصديق على اتفاقيات دولية تحمي النساء من العنف والتحرش في بيئة العمل، يؤكد أن خطاب التمكين لا يتجاوز كونه أداة دعائية دون تغييرات جوهرية. في الوقت ذاته، تُعاني النساء في المناطق الريفية والمهمشة من غياب التشريعات التي تحميهن من التمييز في حيازة الأراضي والعمل الزراعي، إذ لا تتجاوز نسبة النساء الحائزات للأراضي في مصر 3% بسبب الأعراف الاجتماعية ومنظومة قوانين تكرّس هذه الثقافة.
كما تستمر معاناة النساء في معاناتهن المضاعفة في منظومة العدالة الجنائية في مصر والتي تُرسِّخ من العنف والتمييز وإفلات الجناة من العقاب، نظير آليات حماية فعّالة تعزز وتشجع النساء على الإبلاغ واللجوء إلى منظومة التقاضي. وعلى الرغم من خطورة العنف القائم على النوع الاجتماعي، لا تزال السلطة التشريعية في مصر تتباطأ في إصدار قانون موحد لمناهضة العنف ضد النساء، بينما تتزايد معدلات جرائم مثل تشويه الأعضاء التناسلية والتزويج المبكر دون تدخل فعال لحماية الطفلات من هذه الممارسات.
وفي سياق آخر، بينما يروّج الخطاب الدولي بسياساته النيوليبرالية لمفاهيم “تمكين النساء”، تتعرض الفلسطينيات لإبادة ممنهجة على يد الاحتلال الإسرائيلي، حيث تُرتكب جرائم الحرب بشرعية دولية وصمت عالمي. حيث تُستهدف النساء بالقصف، القتل، الاعتقال، والتهجير، مع غياب أية آليات مساءلة حقيقية، وتتعرض الناشطات الفلسطينيات للاعتقال والتنكيل نتيجة دورهن في النضال ضد الاحتلال.
في الوقت ذاته، تتعرض المدافعات عن حقوق الإنسان في مصر والمنطقة العربية للملاحقات الأمنية، إذ يتم استهداف الصحفيات، الناشطات، والمدافعات عن الحقوق الرقمية، كما تستخدم قوانين مثل قانون مكافحة الجرائم الإلكترونية لمعاقبة النساء على تعبيرهن عن أنفسهن، كما حدث مع صانعات المحتوى اللاتي وُجهت إليهن تهم “الاعتداء على قيم الأسرة المصرية”.
إن العدالة النسوية لا يمكنها تجاهل الخطابات الدولية العمياء جندريًا فيما يعرف بـ”المساواة بين الجنسين” فتتجاوز الفئات الأكثر تهميشًا، كما لا يمكنها تجاوز السياسات الاقتصادية التي تدعمها ومن شأنها تكريس التهميش والفقر. فبدلًا من الاعتراف بضرورة اقتصاد الرعاية والعمل غير المدفوع الأجر، فإنها تطرح حلولًا لا تغير من واقع النساء.
في الوقت ذاته، لا يمكن الحديث عن أي تحرر في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي وانتهاكاته ضد الفلسطينيات، مما يستدعي موقفًا حاسمًا من الحركات النسوية حول العالم لربط النضال ضد الاستعمار بالنضال ضد النظام الأبوي وخطاباته النيوليبرالية.
في هذه السياقات المترابطة، جاء اختيارنا لحملتنا “بكين بالمصري”، لعرض قصص تعكس أوضاع النساء الراهنة ورؤيتنا من توصيات وتدخلات ينبغي تبنيها والدفع بها. وذلك، للتأكيد على إيماننا باستخدام الآليات الدولية من منظورنا وفي ضوء سياقاتنا الوطنية والإقليمية، التي تؤمن بأن قضايانا النسوية تعزز من مبادئ العدالة الاجتماعية، والتأكيد على حق النساء في طرح أولوياتهن في الحصول على حقوقهن والتمتع بها، كما أنها مناهِضة للاستعمار.