منى عباس فضل
في كتابه “الحداثة الممتنعة في الخليج العربي، تحوّلات المجتمع والدولة” يسجل د.باقر سلمان النجار حضوره كباحث ومحلل سوسيولوجي لمرحلة التحولات المفصلية التي تمر بها مجتمعاتنا الخليجية بامتياز، وقد اعتمد في تحليله على أدوات منهجية وصفية لتفكيك الواقع وتشخيصه وإعادة تركيبه حتى وصل بنا لخلاصات عن المرأة والمجتمع من بينها:
عند تناوله باب “المرأة والمجتمع” بل وفي كافة الأبواب التي مررنا عليها قراءة وتمحيصاً، يتلمس القارئ جرأة احترافية هادئة متأنية في مقاربة مكونات الواقع وتفاعل عناصره في البلدان الخليجية وبما تتقارب فيه مجتمعاتها وتتباين، وهذا ليس بغريب عليه كباحث متبحر في طبيعة مجتمعاتنا المحلية كما يعبر عن طبيعة شخصيته وتحليلاته العلمية المسؤولة في كافة بحوثه الأكاديمية ونتائجها.
وليس من المبالغة القول أن ما توصل إليه من نتائج هي ليست جريئة فحسب في مواجهة حقيقة تأثير سلطات القوة الاجتماعية والسياسية والدينية والأثنية القائمة وتضاريس الممنوعات والحساسيات في تمنع مجتمعاتنا عن الحداثة، إنما هي من العمق والنضج والمسؤولية في ملامستها وكشفها عن تفاعلات الواقع بأدوات التحليل الحداثية النقدية، فضلاً عن كونها مغايرة للنهج التقليدي الذي اتسم به الخطاب الليبرالي واليساري الطفولي عند تشخصيه ونقده لواقع المرأة ولجهة تأثير عامل الدين والطائفة والقبيلة الفعال في أوساطها ودرجة احتكامها في سلوكها العام والخاص للمرجعية الدينية والتي غالبا ما يُستخدم فيها تعبيرات حادة وغير مقبولة مجتمعياً كـ”التخلف والظلامية والتبعية وماشابه”، أو لجهة دور العامل الاقتصادي، فهو على النقيض أنزل قضايا المرأة الخليجية بخصوصيتها على الأرض ولم يقتصر تفاعلها مع عوامل العولمة والتعليم وتحررها الاقتصادي فقط، إنما انطلق عبر تأثير كل هذه العناصر وغيرها في شبكة تفاعلها مع الدين ومنظومة الأعرف بهذا القدر أو ذاك في إطار الحراك المجتمعي وما يمر به من متغيرات مفصلية مؤكداً “بأن واقع المرأة الخليجية ما هو إلا انعكاس لماهية الممانعة والمقاومة التي تمر بها مجتمعاتنا تجاه الدخول في عالم الحداثة الحتمي”.
كما يمكن القول أن كتابه تضمن رؤية مغايرة نسبياً مقارنة بتحليل بعض الدراسات الخليجية والعربية لقضايا “حجاب المرأة، والمول كظاهرة اقتصادية-اجتماعية أحدثتها العولمة والثورة الاتصالاتية والتقانية وثقافة الاستهلاك وعناصرها وما إلى ذلك مما سنتناوله في السياق.
المرأة وتحوّلات أول القرن
في مقدمة باب “المرأة والمجتمع” الذي يحتوى على ثلاثة فصول يعتقد النجار بأن النقاشات والجدال حول حقوق المرأة الخليجية السياسية في القرن العشرين، قد دشن الدخول للألفية الثالثة بإيقاع سريع رغم إننا لا نعى جدية التحولات ومفصليتها في مسارنا المستقبلي، مؤكداً أن نساء الخليج اليوم أمام مفترق طرق. لماذا؟
لأمرين مهمين أولهما؛ لأن المسار الذي قادته الرائدات المناضلات لأجل دور ومكانة أفضل لبنات جيلهن متأثرات بقيم الحداثة والأيديولوجيا يتباين ومسار الجيل الجديد الذي بدا وبفعل الصخب والضبابية في فضائه الاجتماعي رافضاً لقيم الحداثة ومعيداً إنتاج قيم المرحلة التقليدية في حالة اجتماعية هي غير حالتها سماها حالات “الما بعد” أي ما بعد التقليدية أو ما بعد البدونة أو صورة من التقليدية في صور جديدة، وهي حالة غير مكتملة في أطرها السياسية والاجتماعية يبرز فيها بدونة المدينة أو تزييفها.
الأمر الثاني؛ لأن هذه المرحلة تتميز بحالات من الصراع المستتر أحيانا ًوالمعلن أحياناً أخرى أو التعايش بين منتمين للأطر التقليدية القديمة وما بعد البدونة أو بعض مظاهر الحداثة الخليجية الخاصة، ومثالها حالة الصراع المستتر بين جماعة “ثقافة داخل السور” ويمثلها العائلات التجارية التقليدية التي قادت عملية التحديث الاجتماعي والاقتصادي والسياسي ولأسباب موضوعية هي خارج قيادة المؤسسات الحكومية والأهلية الكويتية، وقد تداخلت في أوساطها الحركات السياسية والفكرية والحزبية القومية والأخوان المسلمين واليسار لكنها لاتزال منتظمة في أطر عائلية أو مذهبية، وبين جماعة “ثقافة خارج السور” المنتمين للجماعات البدوية الكويتية أو ممن جئ ببعضهم لإحداث توازن اجتماعي وسياسي داخلي في العملية الانتخابية. هذا الوضع خلق لاتوازن واضطراب في الأطر التقليدية لشبكة العلاقات القرابية والسياسية، فدخلوا في حالة صراع انعكس في عنف هذه الجماعات (القبلية) تجاه الثقافة والجماعات المدينية “حادثة الاعتداء على طالبة كويتية عام 2000”.
تأسيساً على السابق يشير النجار إلى الإلتقاء الذي حدث بين قيم البداوة المحافظة مع اتجاهات التطرف الديني ليس في الكويت فحسب إنما في المجتمعات العربية والخليجية، وهذا كشف سلوك هذه الفئة داخل مجلس الأمة في محاولة الاستئثار المطلق بمنافع التوظيف والمنافع الاقتصادية والسياسية، والأمر ذاته حدث في قطر مع “أهل الديرة”.
المرأة الخليجية الجديدة
بدء الجيل المعاصر من نسوة “الثمانينيات والتسعينيات” أكثر قرباً للتقليدية والبدونة في ممارساته منه إلى الحداثة، في اللباس كالبرقع رمز المرأة البدوية، وينوه إلى أن بعض الباحثين والباحثات الخليجيين اعتقدوا بتراجع دور المرأة الخليجية وحضورها في الحياة العامة مقارنة بعقدي الستينات والسبعينيات، مشيراً لرأي باحثة خليجية ذكرت: “إن المرأة تعيش صراعاً بين رغبة تحقيق أدوار الرعاية وبين معوقات ثقافية واجتماعية تحول دون تحقيق أدوارها وتأكيد ذاتها مما يؤثر في مكتسابتها ومكانتها الاجتماعية”، إلا إنه يجادلها وغيرها في مقاربة جيلين من النساء قائلا: “بأن المقارنة بين المرحلتين تتناسي حقيقة اختلاف الفضاءين الاجتماعيين لبروز هذان الجيلان، فأمرأة الخمسينيات والسبعينيات كانت جزءاً من المد الحداثي الاجتماعي السياسي العام وإن تنافرت أطروحاته السياسية، في حين ان ما ساد بعدها اتسم بالمحافظة وسيادة الأطروحات الإسلاموية التي عطلت أدوار المرأة وحاصرت الثقافة رغم محاولات الحكومات الإفلات منها، ورغم ذلك فقد حقق جيل النساء المعاصر الكثير في اختراق سوق العمل وقدراً من الحرية الاجتماعية، ولكن نتيجة للرفاه الاقتصادي وجني ثمار نضال الجيل النسوي السابق في مجال التعليم والعمل، فإن الجيل الحالي لا يبدو إنه منشغلاً بالموضوع العام ولا فعالاً في منظمات المجتمع المدني، والدلالة أن المنظمات الأهلية النسوية الحالية حبيسة فلول الجيل السابق، والذي تأثر بعضها بالاتجاه الإسلاموي”.
يرصد النجار الخطاب النسوي الاجتماعي لبعض عناصر الجيل المعاصر ويجد إنه لا يبدو مغايراً في بعض أطرحاوته عن أصحاب الخطاب الليبرالي النسوي “الإسلاموي” من حيث قبول حق المرأة في التعليم والعمل، بيد إنه لايبدى اهتماماً كبيراً بإعطائها الحق السياسي ويضع شروط لمشاركتها السياسية كوضع الحجاب وما شابه. في هذا الشأن يمييز وضع البحرين نسبياً بسبب الظروف الاقتصادية وتأكيد المرأة لذاتها من خلال العمل أو للضرورة الاجتماعية، وبالنسبة للشأن السياسي فالموقف يحتل درجات أقل في سلم أولويات الجيل النسوي الجديد بدلالة نتائج دراسة محلية تؤشر بأن (83%) من المستجوبات الجامعيات لم يسمعن عن دعوة الانتخابات البلدية، ويستنتج بأن الجيل الجديد لا يبدو متعجلاً في المطالبة بحق المرأة السياسي ولا يراها مؤهلة لخوض التجربة السياسية وهذا يعود لطبيعة الخطاب الثقافي والسياسي الإسلامويالسائد في أوساطهن.
المرأة والسياسة واختراقات الحصن المنيع
ويلحظ إن التحوّلات التي خضعت لها المنطقة جاءت بتغيرات بنيوية مهمة انعكست ايجابياً على وضع المرأة الخليجية، فإرتفعت مشاركتها في سوق العمل من 5% في السبعينيات إلى 20% في التسعينيات إلى 27% في 2015، ويعزو هذا ارتفاع لانخراطها في التعليم، أما خروجها للعمل والحياة العامة فالقبول به كان متفاوتاً في المنطقة بين قبول اجتماعي وحساسية قبلية ودينية أقل، وقد وتميزت المرأة البحرينية باختراقها سوق العمل في قطاعات مختلفة وحتى بمستويات دنيا خصوصاً وإن قانون العيب الاجتماعي لم يلعب دوراً معطلاً، إضافة لما فرضته حتمية الضرورة والعوز الاقتصادي، أما في بقية أقطار الخليج فقد لعبت الموروثات الاجتماعية والاعتبارات القبلية والدينية بدفع المرأة نحو قطاعات محددة كالتعليم والصحة، وبالتأطير والانغلاق النسوي في سوق العمل الأمر الذي دفع لبروز ظاهرة فريدة اتسمت بثنائية وإزدواجية سوق العمل قادت نحو تضخم قطاعات التوظيف الرسمية بإقامة إدارة للنساء فقط: “..خلقت إمبراطورية نسوية مقابلة ومنافسة للإمبراطورية الرجالية خاضعة لتوجيه وإشراف الرجل كرمز للسلطة الاجتماعية، وقد ساعدت الموارد المالية بتشييد هذين العالمين المنفضلين”.
ويعرج إلى مرحلة الثمانينيات فيذكر بأننا شهدنا تراجعاً كبيراً في مشاركة المرأة في الحياة العامة والسياسية برغم النصوص الدستورية التي أعطت المرأة حقها السياسي، وإن اختراق النساء للمجالس المنتخبة لم يكن ممكناً دون قدر من الترتيب الرسمي والتهيؤ الثقافي، ومع ذلك فالتجربة لم تتسع في عموم المجتمعات والموقف ليس مع المرأة عامة، لم لا وطبيعة التركيبة الاجتماعية كما في الحالة الكويتية كانت عاملاً معطلاً لحق المرأة السياسي، وأن التجربة الانتخابية أثبتت في أقطار المنطقة أن إشراك المرأة في الانتخابات لم يضف وجهاً نسائياً على مجالسها ولم يعزز من مواقع القوى والجماعات غير المحافظة بقدر ما عزز الوجود المحافظ داخلها.
وبهذا انتهى في الفصل الأول إلى أن التحوّلات التي جاءت على المنطقة كالثورات العربية والحروب الأهلية ذات الأبعاد الطائفية والقبيلة، خلقت قدراً من الوعي أحياناً وتشويشاً في الوعي أحياناً أخرى عند قطاعات من المرأة في المنطقة، كما دفعتها نحو الانخراط في بعض هذه الحركات أو الوقوف ضدها، وهي كلها تمثلات لحالات من الوعي أو الوعي المضاد للحالة السياسية التي نحن فيها.
المرأة والسياسة: الممتنع والمحظور
يستهل الفصل الثاني بمناقشة ثلاثة تحديات تواجه النساء الخليجيات لجهة حقوقهن السياسية والاجتماعية؛ أولها تحدى المجتمع، الذي تمثله قوى اجتماعية وسياسية تختلف مواقفها بين القبول والرفض ولأسباب اجتماعية وسياسية، لكن الحاجة السياسية قد تدفعهم أحياناً إلى تقنين الرفض لمواجهة القوى الحداثية أو الدولة، كما إن رفض القوى “القبلية أو الريفية” ينطلق من منطلقات اجتماعية أو اجتماعية-دينية تلعب فيها منظومة القيم الاجتماعية وبعضها الآخر أقرب بأن تكون جزءاً طارئاً من الثقافة الدينية أكثر مما هو تعاليم دينية، وثمة ملاحظة له هنا بإن هذا الموقف خضع لتغيرات مهمة خلال العقود الأربعة؛ من رفض تعليم المرأة إلى القبول بإضفاء حالة من المحافظة عليه، كفصل الجنسين في مراحل التعليم أو بعضه، ومع الوقت وبفعل الحاجة تشكلت مرونة بقبول عمل المرأة في المطاعم والمحلات التجارية كما في البحرين والكويت وعمان.
وينتقل لمقاربة موقف القوى الاجتماعية الريفية في البحرين عنه في بلدان الخليج فيجد أنه ورغم اتسامها بالمحافظة ورغم غلبة المضامين الدينية على خطابها الاجتماعي، إلا إنها أحدثت نقلة نوعية مهمة في قبولها مشاركة المرأة السياسية، وهذا مغاير عن موقف القوى القبلية والدينية الكويتية والسعودية، التي أصدرت الكثير من القوانين المحدة للحريات الاجتماعية والسياسية في الكويت بفعل التحالف بين التضامنيات الاجتماعية والدينية، وإن الحالة البحرينية رغم تشابه القوى والتجمعات السياسية فيها مع الحالة الكويتية والحالات الخليجية الأخرى، فإنها وباختلاف مدارسها الدينية والفقهية كما طوائفها ومذاهبها، قد وقفت مع مبدأ إعطاء المرأة حقها السياسي من دون شروط فقهية، على نقيض طرح بعض رموز التيار الديني الكويتي في التعذر بأسباب اجتماعية كما طرح “الإخوان المسلمين”.
ويضيف قائلا: “إن موقف القوى السياسية والدينية البحرينية المؤيدة إعطاء المرأة حقها السياسي لا يمثل رغبة رسمية في إعطاء المرأة حقها السياسي فحسب، بل يعبر عن حالة اجتماعية اتسمت على الدوام بمرونتها من مسألة الشراكة النسوية، فالدور والتضحيات التي قدمتها المرأة خلال تاريخها الحديث والمعاصر، بالإضافة لدورها المجتمعي العام لا يمكن تجاوزها بفتاوى، بيد إن القوى السياسية والإسلامية لم تستطع إيصال امرأة للمجالس المنتخبة منذ عام 2002، وهي بذلك تتساوى والمجتمعات الخليجية الأخرى في علو الصوت الذكوري وهيمنته على المجال السياسي والاقتصادي والاجتماعي. كما أن المجتمع النسوي المرتبط بقوى الإسلام السياسي الشيعي الذي أطاح بقانون الأحوال الشخصية في شقه الجعفري وذلك لشروط متشددة طرحتها بعض المرجعيات الشيعية، كذلك لم تتجاسر التيارات وقوى الإسلام السياسي السني كما الشيعي من دعم دخول أي من عضواتها قبة البرلمان، وأبقت على الرجال فقط ممثلين عنها دون النساء كواجهات سياسية مؤثرة. لهذا لا يمكن من وجهة نظرنا القول بقناعتهم بهذا الحق بقدر ما كان موقفهم محكوماً باتفاق مع الجانب الرسمي أو للاستفادة منها كصوت انتخابي خصوصاً وهي تمثل نصف عدد السكان تقريباً.
ومنه يصل إلى إن دخول المرأة عالم السياسة والعمل يمثلان “اختراقاً”، وعند البعض “انتهاكاً” لعالم الرجال، وحتى يقبل بهذا الاختراق هناك حاجة إلى تبرير ومخارج شرعية ليس بالنسبة للنساء أنفسهن بل للرجال، وهذا ما دفع عضو بمجلس الأمة لطرح شرط التحجب لقبول مشاركة المرأة السياسية، ما يعني جعل القبول يتم في إطار من الهيمنة، واستمرار الثقافة الذكورية للمجتمع وهيمنتها، وإخضاع مبدأ وحق المشاركة لاجتهادات وفتاوى يقبل في إطارها بعض النساء ويرفض البعض الآخر.
التحدى الثاني يتمثل في الدولة، إذ وبرغم السمة الليبرالية للنظام السياسي الخليجي العربي، فإن بعض رموزه في أو وزرائه، غير حداثي التوجه والرؤية، وبعضهم يمثلون قوى الإسلام السياسي أو التضامنيات القبلية التي ترى في إعطاء المرأة حقوقاً سياسية خروجاً عن العرف والتقليد ويعتبرونه نقضاً لتوجهات القوى والتضامنيات التي يمثلونها، كما إن بعضهم حداثي اللسان تقليديوا العقل والممارسة، ولهذا تردد النظام السعودي في منح المرأة حق قياد السيارة رغم قبول جل أعضاءه فالرفض كان انعكاساً لقوة المؤسسة الدينية، ويشير في السياق إلى خطوات البحرين المتسارعة منذ عام 2000 بمنح حقوق للمرأة؛ لكن هذه الخطوات المتقدمة برائنا مرهونة في جانب منها باعتبارات سياسية مع الخارج وولاءات وعلاقات قرآبية وتضامنيات حتى مع توفر عنصر الكفاء والإقتدار.
عند مناقشة التحدى الثالث يضع المرأة أمام نفسها وهي التي تطالب بالحقوق السيايسة؛ ويرى إنها ذاتها التي تتبنى الفكر المناقض لدعوات إنصاف حقوقها، وهذا لاعلاقة له بانخفاض التعليم خصوصاً وإن معظم الداعيات لهذا الفكر هن من النساء المتعلمات تعليماً متقدماً، بل يعود ذلك إلى تغييب وعي المرأة أو تزييفه ورضوخها لاستلاب عقائدي منبعه رؤى اجتماعية وثقافية وما وصفه “بالنزعات الاجتهادية الداعشية” التي تأخذ من الموروثات موقفاً رجعياً من حقوق المرأة؛ فجيل المعاصرات وبفعل سيادة الأفكار الماضوية في أوساطهن، لسن متعجلات في المطالبة بحق المرأة السياسي ولا يرون إنها مؤهلة لخوص التجربة السياسية، ومقولة الاكتفاء الاقتصادي قد تغني عند بعضهن عن المطالبة بالحق السياسي، كما إن البحبوبة الاقتصادية واختفاء أو ضعف التيارات النسوية ومنظماتها إضافة “للفتاوى الطالبانية” شكلت عوامل مؤثرة في هذا الموقف، ورغم ذلك فقد كسبت بعض النسوة جزءاً من الحرية الاجتماعية وإن بسقوف محددة بسياقات المجتمع والجماعة التضامنية، وهذا يعد نمط من أنماط جديدة لصراع النفوذ والهيمنة تتداخل فيها العوامل الجندرية والعناصر الثقافية والدينية الضاربة بجدورها في بنية المجتمع.
المرأة والاستهلاك
في الإطار التحليلي لثقافة الاستهلاك أو الاستهلاك كثقافة عمد المؤلف إلى بيان إنه لا يمكن النظر إليها خارج إطار السياقات التي تتشكل في إطار الثقافة أو مكوناتها العامة، وبرغم التصاقها بالاقتصاديات الرأسمالية الحديثة فإن وتيرة تصاعدها مرتبطة بصورة غير عادية بالتحوّلات الضخمة للنظام الاقتصادي العالمي، ورغم كونها أحد مؤشرات الرفاه الاقتصادي والاجتماعي إلا إنها باتت تخترق المجتمعات المكتملة وغير المكتملة، ولا يمكن عزوها لأسس النوع الاجتماعي أو الإثني للسكان، بل إنها تصيب بنية المجتمع وأفراده وجماعاته وطبقاته كلاً بقدره، وإن تمثلها في هذه الفئات أو الجماعات إنما هو تمثل ظرفي وليس بنائي بمعنى إن اتجاهات المرأة والرجل وقييمها وممارساتهما هي نتاج الفضاء الثقافي والبناء الاقتصادي الذي هما جزء منه.
هناك من يقسم ثقافة الاستهلاك على أساس جنساني بين نوع اجتماعي يمثل القيادة الإنتاجية المتمثلة في الرجل المنتج لهذه الثقافة والمستهلك لها، وبين نوع اجتماعي متمثل في المرأة التي تمثل الخضوع والتبعية والاستهلاك لهذه الثقافة، وهذا تقسيم يتعارض والفهم الجديد في العلوم الاجتماعية الذي يرى في الاستهلاك عملية ذات فضاء اجتماعي واسع يشمل كل من المرأة والرجل بل وكل المجتمعات البشرية باختلافاتها الطبقية والإثنية.
وفي دحض مقاربة بعض الدراسات الانطباعية التي تعتبر أن المرأة عنصراً استهلاكياً أكثر منها عنصراً إنتاجياً، يرى بإنها تتناسى حقيقة أن الاستهلاك سياق عام يؤثر في سلوك الأفراد وقيمهم وتوجهاتهم كل وفق موقعه الطبقي ومكانته الثقافية وحالته المدنية وربما النفسية، ما يعنى أن الثقافة الاستهلاكية ذات أبعاد طبقية ومعرفية ومدنية ولربما جنسانية، وربما بسبب حالة الوفرة وتنوع السوق الذي تعيشه النساء الخليجيات مقارنة بالعربيات جعل من دالة اقتناء السلعة لديهن ولدى الرجل مؤشراً عن حالة اجتماعية أكثر منها طبقية أو ثقافية وربما بسبب عدم تحمل المرأة في بعض الحالات قسطاً من الإنفاق الأسري، وبالتالي فإقتناء السلعة في مجتمعات الخليج ليس مؤشراً عن حالة طبقية معينة، فأصحاب الدخول المحدودة أو المنتمون للطبقة الوسطى قد يتجهون نحو الاقتراض للسفر والتشبه في مشترياتهم بالطبقات الأعلى، مضيفاً بأن الاستهلاك كنزعة وممارسة سلوكية يمثل جزء من سياق بات يشكل كياننا وممارساتنا، وثقافة الاستهلاك تمثل جزءاً من سلوك المجتمع، عند المرأة والرجل الفرد او الجماعة، الفقراء والأغنياء، كل بقدرته الاقتصادية وهو على ارتباط علائقي بمركب القوة.
العباءة الخليجية رمزية “الأنثنة”
ويستحضر العباءة الخليجية والترويج لها كسلعة محلية تخضع لنفس الوسائط التي يروج بها المنتوج الغربي عبر قيم الثقافة الاستهلاكية والتي من خلالها يعاد إنتاج قيم المحافظة عبر الآليات والوسائط والتعبيرات والرموز اللفظية التي توظف في بيع العباءات والملابس النسائية الخليجية، فهي لا تختلف ضمنياً عن وسائط ترويج السلع الغربية، بل إن الرمزية الدينية توظف لتعطي بعداً جديداً وقوياً في الترويج يرفع معدلات الاستهلاك، وهي لا تختلف عن محلات بيع الثوب والغترة العربية غير أن العباءات توظف لمفهموم الستر والعفة في حين يوظف مفهوم الرجولة للشموخ والأصالة في الثوب. وفي الوقت الذي يشتد فيه النقد على توظيف جسد المرأة في الدعاية الغربية، فإن محلات بيع العباءات ليست بريئة في إعلاناتها التجارية وتوظيف النساء في منتوجاتها “حياكة التصاميم ومواقع طبع الرسومات اللافتة في جسد المرأة واللاقطة لعين الرجل في العباءات وبشكل مثير مثل “ظاهرة العباءات البدي، البراقع” كانت رمزاً للمحافظة والعزل، باتت توظيف تجارياً ودعائياً في صورة العين المكحلة ولتكون أكثر جذباً لعيون الرجال من عيون الوجه المكشوف.
إذن لم تعد هذه الملابس تعبيراً عن الماضي أو حالة “التخلف” أو حتى مضامينها، إنما باتت بفعل آليات السوق تزيد المرأة حسناً وإثارة. وتوظف الرمزيات التقليدية والماديات المابعد حداثية في إعطائها بعداً جمالياً مثيراً، لا يختلف في وظيفته الأساسية عما يسميه البعض “الألبسة الفاضحة” القادمة إلينا من الغرب. بمعنى أن العباءة لم تعد وظيفتها الأساسية للستر والعزل، إنما أصبحت بفعل هذه القوى والآليات تعبيراً عن الذات والمكانة الاجتماعية والتمايز الثقافي من ناحية، بالإضافة إلى كونها رمزية مهمة في رسم التمايز الطبقي بين الفئات والجماعات المختلفة. وبالتالي فالثقافة الاستهلاكية ليس من مصلحتها انهيار الضوابط إنما تميل نحو التعامل المرن الذي يتسع للضوابط وكسرها في آن معاً.
المول وكسر العزلة
يرصد أسواق المول المعاصرة ويقارنها بأسواق الخليج السابقة التي كانت تقوم على التشابه “سوق الحريم، سوق الأقمشة، الخياطة..إلخ”، فالمول يجمع كل شئ ويمثل حالة من التنوع المجتمعي ومفارقات الحياة المعاصرة، وهو يمثل شئياً أكبر من أهميته المالية (أو التجارية)، المول فضاء يختلط فيه التبضع مع متعة المشاهدة والترفيه، وهو لجميع فئات المجتمع حيث سقط فيه الحرج الاجتماعي المحد لتواصل الجنسين، يتحول مجالاً للفرجة الاجتماعية وتُكسر فيه قيم العزل الاجتماعي والستر التي بنى عليها نسق العزل الاجتماعي بين الجنسين. ولأنه فضاء عاماً، فالنساء تتبطع فيه من كل الطبقات الاجتماعية أو “التسلوية” دون “حظر” اجتماعي أو مرافق من الذكور، أو ملاحقة من العيون، ولهذا فالمولات شكلت نقلة مهمة في حياتهن، كونها تعني الانتقال من الخاص (البيت) إلى العام (المول)، فإذا ما كان البيت يعني ضبطاً للسلوك فإن “المول” يعني كسراً لهذه الضوابط، يعني التمكين والحرية، وتنقسم هذه المجمعات إلى مراتب.
فضاء الرياضة الذكوري المخترق
يستعرض المؤلف كيف نزعت الذكورية عن فضاء الرياضة وكيف تم إنزال الرياضة من طبيعتها الإرستقراطية النخبوية، إلى نشاط تشارك في ممارسته العامة و”تتكالب” على استهلاكه، وكيف تداخلت فيه الأنشطة الاستثمارية الأخرى كصناعة السفر والسياحة والإعلان والتلفزة وغيرها، كما باتت تؤدي وظائف سياسية مهمة على صعيد الدول، خصوصا وقد دفعت ظروف التحوّل الاقتصادي عالمياً نحو بناء مؤسسات أو نسق أو نظام قائم بذاته خاص بها حتى باتت أسهمها تتداول في البورصات العالمية وزاد اهتمام نساء الخليج بممارسة الرياضة وارتداء آخر مبتكرات الملابس الرياضية وارتياد أندية التريض، الأمر الذي أدى لإرتفاع الطلب الاجتماعي عليها فتحولت ممارسة الرياضة لنمط استهلاكي مجتمعي لكل الفئات والمراتب، وحالة الولع بالرياضة تضخم استهلاك منتجاتها فلم تعد نشاطاً مقتصراً على الرجال فحسب، بل شملت النساء، وأن معطيات الحياة الجديدة وتعقدها خلقت طلباً اجتماعياً جديداً ومتصاعداً على الرياضة، وكسرت من نواح أخرى “تابوهاتها” عن الطبقات الشعبية الأخرى والنساء.
رمضان وحشر مع الناس عيد
اعتبر المؤلف أن حمى الشراء في رمضان تنتاب كل فئات وطبقات وجماعات المجتمع ويتساوى فيها النساء مع الرجال، وهي حالة تغذي نهم الشراء والصرف عند الغالبية، فالحديث اليومي بين النساء والرجال عن الاستعداد لهذه المناسبة تُشرك بصورة لا إرادية أو لاشعورية من يرغب أو لا يرغب في فعل الشراء، إنها كحمى الإنفلونزا، وجزء من الحمى الاستهلاكية التي يتجسد فيها نشاط المرأة الشرائي فتستعد للمناسبة بقوائم مشتريات كبيرة، وهذا سلوك لا يخص الشاري وحده -أي المرأة- إنما يخص الإطار الأسري المباشر، بمعنى آخر: تمثل المرأة في بعض المناسبات الدينية ومواسم الأعياد العنصر الرئيسي في قرار الشراء، بل إنها المحدد الأول فيما يُشترى، لربما انطلاقاً من حقيقة أن البيت يمثل “مملكة المرأة” أو أن المطبخ بما فيه يمثل مملكتها! لكن المناسبة ومتطلبات مواجهتها تضخم حاجات ومتطلبات الأفراد التي في بعضها واقعية وبعضها الآخر وهمية، وتواجه الفئات الأقل دخلاً سيل من القروض المؤقتة أو السلفيات للاستعداد لها.
ختاماً، يبقى الكتاب بمجمله مرجعاً مهماً جدير بالقراءة والإطلاع النقدي ومقاربة ما جاء به من أفكار وتحليلات بتجارب ونضالات الحركات النسائية الخليجية في مسار تطورها وفي قوتها وضعفها الذي يمثل أحد أوجه التحولات التي تمر بها المجتمعات الخليجية.