بطول كورنيش النيل تناثرت أيادي الأحبة المتشابكة وأحاطت أذرعهم بخصور بعضهم البعض ، كانت تحاول أن تسترق السمع لما يقولون عند مرورها بجانبهم ولكن أذناها لم تسعافها لسرعة الميكروباص الذي كانت تستقله .. نهارات الآحاد من كل أسبوع حيث بنات اعدادي وثانوي بزي المدرسة المنفلت والخاضع للتحريف والذي لو شاهدته المديرة لأرجعتهن إلى البيت .. جيب جينز بدلا من جيب كُــحـلي وتي شيرت رياضي أبيض بدلاً من القميص المكوي وفتىً نحيل فارداً ظهره بجوارها يحاول أن يداري اضطرابه فيغالي في مشيته بثقة ، تلصُـصها على عشاق الكورنيش لم يؤثِّـر على انتباهها فأحست حركة يده التي تسللت لترتكز على مسند الكرسي الأخير للميكروباص بجوار الشباك حيث تفضل أن تجلس لو فاتها المقعد الأمامي بجوار السائق .
“من فضلك .. شيل إيدك من ورايا” بهدوء قالتها وسرعان ما استجاب ، تعلم أن اليد تصنع مناطق نفوذ وتفرض الانضواء تحت رايتها ، يده خلفي .. إذن أنا أخصُّـه . لاحظت في الثواني التي واجهته فيها لُـطف هيئته وتعجبت من جرأته واجترائه .. هل تضع دفتر محاضراتها بينه وبينها؟ لا .. ليس الآن حتى لا يظن أنها تخشاه .. الأفضل أن تنتظر قليلاً فلن تُـقدم على تلك الخطوة إلا لو بادر وأرخى رجله ناحيتها وستأتي الفرصة بالتأكيد ، فمطبات الكورنيش ليست بالنُـدرة المأمولة ، هل تستل دبوساً من طرحتها تجذبه بأصابعها بكل خفة وهي تصطنع تعديلها وضبطها؟ .. لو قرَّب منها ستغرسه في لحمه حتى تُدميه ، “ويبقى راجل بقى لو مسك نفسه” .. تخيلت سقف الميكروباص وقد انشق بصرخته التي ستقطع بالتأكيد انهماك عشاق الكورنيش ليلتفتوا فزعين حيث الجالس بجوارها .
تمنت لو بادر بفعلٍ جديد بدلاً من انتظارها لاعتدائه القادم ، فحالة التأهب تلك تستنزفها وتوترها أكثر ، استدار نحوها قليلاً وولَّـى وجهه شطرها .. لاحظت أنه يرمقها فقط فتتجاوز عيناه ملابسها لما تحتها وهو في مكانه وضاماً يديه أمامه وبنات ثانوي لا زلن يتمشين على الكورنيش .. فكرت أن تقرأ في الجريدة التي تحملها ، فتحتها واشرئب قليلاً عندما مرت على صفحة الرياضة ، تجاوزتها وفتحت صفحة الفن وهي تغمس وجهها فيها ، لكنها من حينٍ لآخــر كانت تبعدها عنها كي ترسل له اشارات بأنها لا زالت متيقِّـظـة ، وكذباً تحاول القراءة فتفشل في التركيز لتربُّـص جارها ولـصــوت الـــســت أم كلثوم الذي تهادى لمسامعها بعد أن قرر السائق سماع إحدى روائعها “الحب هو الود والحنية ..عمره ما كان غيرة وظنون وأسيه” ، حاولت التفكير بأي فكرة إيجابية أو شخص حبيب إلى قلبها ، كما قرأت ذات مرة كإحدى حيل وآليات التوافق لمواجهة التوتر والضغط النفسي .. تذكَّـرت أباها .. حب حياتها الكبير حتى الآن ، كان أول من تبادر إلى ذهنها لكنه تسبب في زيادة توترها أكثر لشعورها نحوه بالأسى ورثائها لحاله حين اختار البقاء مضطراً في عمله وبنصف راتبه كي يتفادى تسريحاً كاملاً للعمالة يشمله هو وزملاء شركته بعد كل سنوات الخدمة تلك .. فكرت في جاكلين أخلص صديقاتها التي تمكَّـنت منها فكرة الهجرة لحاقاً بأخيها الذي حصل على الجنسية الكندية مؤخراً ، وبخاصة بعد أن شاهدت المؤتمر الانتخابي لأحد المرشحين الإسلاميين المحتملين للرئاسة ، “الحب هو اللي بأمره هويتك .. وأمره لا بإيدك ولا بإيديه” تقولها الست ويرمقها الرجل الجالس بجوارها والتي ما زالت تشعر بحركة عينيه دون أن تواجههما .. لحقت بسماع كلمة “يا جميل” ، أو صُـفَّـارة يصدرها أحدهم مبدياً اعجابه بها ، البعض كان ينادي على صديق خيالي على الرصيف الآخر كي يلفت انتباهها فتلتفت إليه ولصديقه ، فلا تجد الصديق ولكنها تتلقى ابتسامة المعجب بها .
“أحلى بنت فيكم هي إللي لابسة جزمة حمرا” بسرعة تنظر هي وصديقاتها لأحذيتهن رغم ثقتهن في أن أياً منهن لا ترتدي حذاءاً أحمر ليضحكن من المداعبة ويضحك معهن .
تعود لجريدتها من جديد ، “عمري ما قلت إزاي وليه حبيتك؟ ولا عمري قلت يا ريتني يوم ويا ريتك.. وبكل عقلي وبكل قلبي .. هويتك” ، وتقلب صفحاتها حيث هيلاري كلينتون المستاءة من اصرار كوريا على اجراء تجاربها النووية التي تستفز الولايات المتحدة مثلما استفزتها إيران باتمام مناوراتها العسكرية .. تسترجع قائمة الدول المارقة كما تراها الامبراطورية العظمى والتي تضم من ثبت أنه لا يملك أسلحة دمار شامل باعترافها واعتذارها للعراق ، وتعجب أن تخلو القائمة من إسرائيل بمفاعلاتها !!
قُـرب الجامعة تنزل من السيارة وتودع الـســت منشدةَ ” بالحــب وحــده انـت غــالــي عــليــا .. بالحــب وحــده انـت ضــي عــيـنـيـا .. بالحــب وحــده .. وهــو وحـــده شــــوية ؟؟!!” يتجاوزها الميكروباص وقد استدار صاحبنا ينظر إليها من وراء زجاج السيارة الخلفي الذي كتب عليه السائق “كــلــه بــالــحــب”.
“المقالات الواردة لا تعبر بالضرورة عن وجه نظر المؤسسة وإنما تعبر عن وجة نظر كاتبها ..”