محمود عبد الحي
في أساس جميع العلاقات الاجتماعية ثمة النقص والاحتياج المتبادل، ومن ثم، الحب بصفته مسعى دائماً للاكتمال بالآخر، ولإشباع الحاجات الجذرية، في الوقت ذاته. من هذه الزاوية نستطيع تفهُّم عطش كثير من الفلاسفة والمفكرين والأدباء والفنانين إلى جعل الحب “ديناً إنسانياً”. فالحب هو العلاقة الإيجابية الأصلية التي تعكرها التعارضات الناجمة عن شكل الملكية وما تفرضه من تقسيم للعمل وتوزيع للدخل، وما تعيِّنه للأفراد من مواقع اجتماعية متفاوتة تبعث الحسد والكراهية والبغضاء، فضلاً عن التنافس والصراع. فإذا أردنا حلاً أيجابياً وجذرياً لقضية المرأة بما هي قضية المجتمع، يجب أن نؤكد أن الحب هو الأصل في العلاقات الاجتماعية والإنسانية. وهو مبدأ العلاقات الاجتماعية والإنسانية وغايتها. وهذا مبدأ قابل للبناء عليه وغاية جديرة بالسعي إليها. ومن ثم فإن قضية المرأة مفهومة في إطار قضية الحرية والانعتاق أو قضية السعادة، هي هدف في ذاتها، لا وسيلة لهدف آخر كالتقدم مثلاً، آية ذلك أن التقدم يقاس بدرجة تمتع المرأة والرجل على السواء بحريتهما وحقوقهما وليس العكس. في مثل هذا الوضع تندرج قضية المرأة في المشروع النهضوي الذي لا بد أن يتأسس على مبدأ يستمد مشروعيته وقيمته ومسوغاته من ذاته، لا من أي عنصر خارجي، وهذا المبدأ هو حرية الإنسان وانعتاقه وسعادته. ويميل المرء إلى الاعتقاد أن السبب الرئيس لإخفاق محاولات النهوض عندنا هو أن الإنسان لم يكن مبدأها وغايتها، بل ربما نظرت إليه الأيديولوجيات الكبرى على أنه وسيلة لغاية أعظم كالوحدة العربية وتحرير فلسطين، أو بناء الاشتراكية، أو إقامة الدولة الإسلامية. ولذلك كانت قضية المرأة في تلك المحاولات إما نافلة وإما هامشية. وقل مثل ذلك في الثورات الوطنية من أجل الاستقلال. وهنا تحضر بكل ثقلها إشكالية التأخر التاريخي التي تستدعي ثورة معرفية تغير زاوية نظر الإنسان إلى ذاته وإلى العالم؛ والتي تستدعي في سبيل ذلك الاعتراف اعترافاً مبدئياً ونهائياً بأن تاريخنا جزء من تاريخ العالم، وأن الأمم المتأخرة تتعلم في مدرسة الأمم المتقدمة، وأن ماضي هذه الأمم المتقدمة القريب يمكن أن يكون مستقبلنا القريب. أليس لافتاً للنظر أننا لا نزال إلى اليوم “نستقدم” الأفكار والنظريات دون مبادئها ومناهجها وقيمها، ونستورد التقانات دون الحاضنة المعرفية التي أنتجتها، ونأخذ العلوم الحديثة التي “لا تتعارض مع الدين” من دون أن ندرك أنها فروع مختلفة من شجرة المعرفة، حين نقطع أياً منها عن تلك الشجرة إنما نجفف نسغه ونزهق روحه؟
وفي ظني أن الاستلاب أو الاغتراب أو الضياع، وهي أسماء لمسمى واحد، هو علة مايشوب العلاقات الاجتماعية، في كل مجتمع على حدة، وما يشوب العلاقات الإنسانية على صعيد العالم، من عناصر تجعل من الإنسان عدو الإنسان، لا تجلي ماهيته. ومن ثم فإن توق الأنا لبلوغ كمالها وتمامها بالآخر قد ترسب في اللاوعي الجمعي محتفظاً بصيغته الفطرية، وأكاد أقول الغريزية، التي تضفي على الحب طابع الشهوة الآثمة، شهوة التملك الأناني أو الاستهلاك النهائي، والاستمتاع الذاتي الفاسق، أو شهوة الافتراس. فالسادية والمازوشية تبطنان العلاقات الإنسانية وتتبادلان المواقع لدى النساء والرجال، في صيغة إيلام متبادل وتبكيت مشترك للذات، على الرغم من كل ما يلابس هذه العلاقات ويغلفها من محايلات وإيهامات. وتلكم هي أهم أسباب التعاسة والشقاء وأعمقها غوراً في حياتنا، ولا سيما الشقاء الجنسي الذي يلف المجتمع، وشقاء المرأة بوجه خاص. مما يضع للسعادة تعريفاً يرادف تعريف الحرية، أعني حذف استلاب الإنسان بأشكاله المقدسة وغير المقدسة. حتى يغدو بوسع أحدنا أن يخاطب من يحب بقوله: يا أنا. في ظل الاستلاب تغدو كل علاقة بين اثنين، أو اثنتين، أو بين رجل وامرأة، علاقة بين غريبين أحدهما عن الآخر وعن ذاته. ولطالما كانت الأشياء والمتع الحسية، متع الاستهلاك النهائي، توسطات ضرورية تحمل دلالات رمزية للحب المفقود. ففي ظل الاستلاب تغدو العلاقات بين الأشياء علاقات اجتماعية وإنسانية، والعلاقات الاجتماعية والإنسانية الفعلية تغدو علاقات بين أشياء، كما قال كارل ماركس.
وفي هذه الحال تتحول منتجات العمل البشري إلى أصنام يقدم لها منتجوها فروض الطاعة والعبادة. وإزاء “صنمية السلعة” تقوم صنمية السلطة، ومنها سلطة الرجال على النساء وقوامتهم عليهن. ويبدو لي أن العنف الذي غدا أساس العلاقات الاجتماعية، ولا سيما العنف حيال المرأة، يرجع إلى هذه الوضعية المأزقية، وضعية التملك الأناني والاستهلاك النهائي والاستمتاع الذاتي الفاسق وشهوة الافتراس التي ينجم عنها الإيلام المتبادل وتبكيت الذات. وإنها لحلقة جهنمية أو دائرة مفرغة كل نقطة على محيطها هي البداية والنهاية. المقدمة هي النتيجة. إذ لا يستطيع أحدنا أن يعامل المرأة على أنها كلبة من دون أن يعترف ضمناً بإنسانيتها؛ وإذ يشعر، ولو على نحو غامض، أنه إنما يهين ذاته ويزدري ماهيته بإهانتها وازدرائها، يلجأ إلى نفي إنسانيتها، ويجهد في إقناع نفسه بدونيتها وعدم استحقاقها الاحترام، بل عدم استحقاقها الحياة، ومن ثم يغدو مجرد الإبقاء على حياتها، بحكم الحاجة إليها، هو ذروة الرحمة وكرم الأخلاق. والتدابير القانونية الإجرائية، على أهميتها، لا تستطيع حل هذه المعضلة، مهما كانت صارمة ورادعة، ما لم يبلغ المجتمع درجة من الوعي يدرك معها ماهية القانون في صيغته العامة والمجردة بصفته تجلي الروح الإنساني، تجلي العقل في زمان ومكان محددين. أي ما لم يدرك المجتمع “روح القوانين”؛ أي ما لم يدرك المجتمع المعني أن روح القوانين هي قوانين الروح. ويغدو القانون قوة روحية داخلية في الفرد والمجتمع مرادفة للحرية ومقترنة بها، لا مجرد قوة خارجية غريبة ليست سوى قيد على الحرية. هكذا فقط تؤسس فكرة سمو الله فكرة سمو القانون.
أليس ضرورياً أن نتساءل: لماذا يعامل المرء أو المرأة كلبه أو كلبها على نحو أفضل مما يعامل امرأته أو مما تعامل رجلها؟ في ظني أن مرد ذلك إلى أن المرء والمرأة يدركان على نحو قاطع حيوانية الكلب ويعاملانه على أساس هذا الإدراك الصافي، في حين لا تزال إنسانيتهما ملتبسة. هل أقول: إن أحدنا حين يحب كلبه هذا الحب ويعامله هذه المعاملة إنما يحب حيوانيته أو طبيعيته، أو ذاته الطبيعية في الكلب، في حين يعجز عن حب إنسانيته، أو ذاته الإنسانية في الآخر؟ ولطالما ظننت أن المسألة هي مسألة “إنسانيةٍ ملتبسة”. فالإنسان أشكل عليه الإنسان، كما قال أبو حيان التوحيدي