في السنوات الأخيرة، شكل مشروع قانون حماية النساء (وسائر أفراد الأسرة كما جاء في صيغته الأخيرة) من العنف من دون ريب أحد العناوين الأساسية للمواجهة بين الحراك النسوي العلماني والتيار الديني المحافظ، وخصوصاً ضمن الطوائف الإسلامية التي رأت فيه تهديداً أساسياً للأسرة وخروجاً عن أحكام الشريعة، فضلاً عن كونه تهديداً جديداً لصلاحيات المحاكم الشرعية، مشابهاً لما نتج من تدابير حماية الأحداث[1]. وإذ لقي المشروع الذي بادرت جمعية كفى الى اقتراحه بهدف حماية النساء من العنف تعديلات عدة ضمن مصفيات مؤسسات الدولة في اتجاه مراعاة هواجس الأطراف المعارضة والتخفيف من حدة معارضتها، فإن أبرز هذه التعديلات حصل داخل اللجنة المنبثقة عن اللجان المشتركة برئاسة النائب سمير الجسر. وقد حصل ذلك بعدما بادر عدد من الجمعيات الإسلامية الى توسيع رقعة الاعتراض عليه. فتحت غطاء مبدأ المساواة الذي يفرض حماية جميع أفراد الأسرة وليس فقط النساء من أعمال العنف، انزلق المشروع بإرادة واضعيه في اتجاه إعادة تعريف هذه الأعمال ضمناً. وعليه، وبعدما أخرج واضعو المشروع منه الأحكام الآيلة الى معاقبة الأفعال الأكثر تعبيراً عن السلطوية التقليدية للرجال كالاغتصاب الزوجي أو إكراه النساء على الزواج، عادوا وشملوا فيه أفعالاً لا صلة لها من حيث المبدأ بالعنف كالزنا وممارسة الدعارة، مع التأكيد صراحة وللمرة الأولى في قانون مدني على حق الزوج بالجماع وضمناً بواجب الزوجة في أدائه، وهم بذلك حوّلوا وجهة القانون بشكل كبير من إدانة السلوكيات السلطوية التقليدية في الغالب للرجال الى إدانة سلوكيات النساء المستخدمة غالباً من هؤلاء لتبرير تعنيفهن، وفي مقدمها النشوز.
وإزاء ذلك، كان من الطبيعي ألا يستتبع إقرار مشروع القانون في اللجان المشتركة أي ردود فعل نارية من قبل معارضيه الأساسيين على نحو يؤشر الى أن المشروع في حلّته الجديدة لم يعد يزعجهم. كما من الطبيعي أن يلزم واضعوه ومؤيدوه في انطلاقاته بالمقابل لغة التحفظ والحذر بدرجات مختلفة وفق مواقعهم، مسجلين أن الحسنة الكبرى تكمن في نقل المواجهة الى مراحلها الأخيرة أي الهيئة العامة للمجلس النيابي، بعد سنوات من المناقشات المحتدمة في حلبات مختلفة. وبالطبع، يلقي هذا المشروع بتحولاته والنقاشات الدائرة حوله وبمناسبته، إضاءات هامة ليس فقط على كيفية مقاربة المؤسسات العاملة في التشريع لحقوق النساء، بل بشكل أعم على خصائص المواجهة الممكنة بين التيارين العلماني النسوي والمحافظ في المرحلة الحاضرة، مع ما يتخلل ذلك من خطوط حمراء يشهرها التيار المحافظ الذي يبقى شديد التأثير في مواقع القرارات العامة ومن خروقات (إصلاحات) يحققها التيار العلماني ويشكل القبول بها من قبل التيار المحافظ ضرراً أقل بالنسبة اليه من رفضها.
وهذا ما سنحاول سبره على طول هذا المقال.
المساواة الشكلية كمدخل للانقلاب على تعريف العنف
أول أوجه المواجهة نشهدها في مطلع القانون، أي تسميته والتي أصبحت “مشروع قانون لحماية النساء وسائر أفراد الأسرة من العنف الأسري” بعدما كانت في المشروع المحال من قبل مجلس الوزراء “مشروع قانون لحماية النساء من العنف الأسري”. وقد بررت اللجنة الفرعية هذا التعديل بأن المشروع الحكومي لا يساوي بين أفراد الأسرة، فضلاً عن أنه يغفل كون العنف يطاول الذكور أيضاً، فيميز لمصلحة الأنثى، ما يشكل مساً بالمادة 7 من الدستور التي تقر المساواة بين المواطنين في الحقوق والموجبات ويعرّضه تالياً للطعن بدستوريته وللإبطال. وبذلك، رفضت اللجنة أي تمييز للنساء متجاهلة تماماً الموروث الثقافي وقروناً من الغبن والسطو، وبشكل أعم أي اعتبار للاختلافات الكبيرة في الأوضاع القانونية وبشكل أعم للظروف الاجتماعية المؤثرة في هذه الأوضاع. وهذه الحجة لم ترد عرضاً أو لماماً، بل لجأت اللجنة اليها بشكل مكثف بحيث ورد ذكرها أكثر من مرة ضمن أسبابها الموجبة. وهي بذلك سعت وكأنها ترغب بإلباس تعديلاتها لباساً تقنياً محضاً مجرداً من أي طابع أيديولوجي أو انحياز لهذا الطرف أو ذاك، مع التأكيد أن هذه التعديلات ضرورية لحماية القانون الذي يكون معرّضاً للإبطال في حال إبقائه على حاله. وكأنها بذلك تحاول تحقيق مطالب الجهات المحافظة بمضمون تعديلاتها، مع سعيها الى إقناع الجهات النسوية العلمانية بأن هذه التعديلات ضرورية لتحصين القانون الذي تريده هي إزاء أي طعن. وقد سعت اللجنة الى تقوية مشروعية هذه التعديلات من خلال الإشارة الى أنها تتجاوب مع طلبات الكثيرين من ممثلي المجتمع المدني. لا بل ذهبت الى ذكر اسم إحدى الناشطات النسائيات واسم أحد المطارنة (الياس عودة) من ضمن ممثلي المجتمع المدني الداعمين لهذه التعديلات.
وعدا أن الاستناد الى مبدأ المساواة الشكلية لمنع أي تمييز لمصلحة النساء يتعارض مع اتفاقية إلغاء جميع أشكال التمييز ضد النساء والتي نصت صراحة على إمكانية التمييز إيجاباً لمصلحة النساء، والتي أقرها لبنان وباتت جزءاً أساسياً من منظومته القانونية (مادة 4)، فإن الإمعان في التعديلات المقترحة إنما يظهر أن التقنية المستخدمة شكلت مجرد قناع استخدمته اللجنة لاسترضاء التيار المحافظ وفرض هيمنته وخطوطه الحمراء بشكل لا يلقى ممانعة قوية ولا يستنفر القوى العلمانية.
وقد تبدى ذلك واضحاً من خلال أمرين متلازمين: فإلى جانب رفض المواد المتصلة بتجريم أفعال الضغط أو العنف التي غالباً ما تشكل أدوات ذكورية لضبط حرية النساء وقمعها، تضمّن المشروع موادّ جديدة عدة تشكل في عمقها وأبعادها أسساً للتنظيمات التقليدية الآيلة الى التمييز ضد المرأة كما نبيّن أدناه. فكأنما الحجة المستخدمة لنقض أي تمييز لمصلحة النساء تتماشى تماماً مع إدخال مواد هي بمثابة صروح للتمييز ضدهن والانقضاض على حرياتهن.
رفض معاقبة التسلط الذكوري بحد ذاته
هنا، نلمح لدى اللجنة ممانعة حقيقية إزاء توسيع نطاق القانون على نحو من شأنه أن يؤدي الى ضبط التسلط الذكوري أو قمعه.
فلا يشكل عنفاً ما لا يشكل جرماً نص عليه صراحة هذا القانون، أو بعبارة أخرى “لا عنف من دون نص”. ففي حين عرّف المشروع الحكومي العنف الأسري بأنه “أي فعل عنيف.. قد يترتب عليه أذى أو معاناة..” من دون أن يكون بالضرورة معاقباً أو منصوصاً عليه في أي نص محدد، حصرت اللجنة تعريف العنف بالعنف الذي يشكل إحدى الجرائم التي نص عليها القانون المذكور على نحو يؤدي الى حصر نطاق تطبيقه في شقيه الجزائي والحمائي، بهذه الجرائم. وبذلك، وضعت اللجنة حداً أمام أي توسع في الاجتهاد من قبل المحاكم على نحو يسمح للنساء بالمطالبة بإجراءات حماية كلما شعرن بتعد على حرياتهن وحتى ولو لم تشكل الأفعال المشكو منها بالضرورة جرائم جزائية. وبذلك، بدت اللجنة وكأنها تريد القطع مع توسع قضاة الأحداث في تطبيق مفهوم الطفل المعرّض للخطر ليشتمل الحالات التي تبدو فيها صحة الطفل النفسية معرّضة للخطر على نحو رأت فيه المحاكم الشرعية مساساً بصلاحياتها[2].
وفي الاتجاه نفسه، وبما لا يقل دلالة وخطورة، رفض المشرّع إخضاع بعض أخطر الأفعال المستخدمة للهيمنة على النساء في العلاقات الأسرية لعقوبات جزائية.
وفي مقدمة ما قامت به اللجنة على هذا الصعيد هو حذف تجريم الاغتصاب الزوجي. وقد بررت اللجنة التعديل بأن النص (الحكومي) يتكلم عن اغتصاب الزوجة بالعنف والتهديد، فيما الاغتصاب لغة هو أخذ الشيء ظلماً ودون وجه حق. وبذلك يكون المشروع قد أخطأ وفق اللجنة حين ساوى بين “ما يقوم بين الأزواج الذين تربطهم علاقة زوجية ترتّب حقوقاً في المعاشرة الجنسية لكل من الزوجين” و”ما يقوم على الفعل من رجل مع غير زوجته دون أن يكون له حق في معاشرتها”. وهكذا، بمنطق اللجنة، الزواج يعطي حق الاغتصاب ما دام بمثابة استيفاء لحق مشروع هو المعاشرة الزوجية، فلا يكون عنفاً إلا إذا ترافق مع ارتكاب جرم من جرائم إيذاء الزوجة المنصوص عليها في قانون العقوبات. واللافت أن اللجنة لم تكتف بتبرير موقفها الرافض لفكرة معاقبة الاغتصاب الزوجي بحق الجماع المكرّس حسب رأيها في التشريعات الدينية و”القوانين المدنية” (وردت العبارة كما هي في أسباب التعديل)، بل ذهبت أبعد من ذلك في اتجاه تكريس “الحق الزوجي في الجماع” للمرة الأولى في نص صريح في مشروع قانون مدني (البند 7-أ من المادة 3 من المشروع كما عدلته). وبذلك، وفي حال إقرار هذا المشروع، يكون المشرّع اللبناني “المدني” قد كرّس حق الجماع (الاغتصاب) كأحد الحقوق الزوجية قبل أن يقوم بتشريع الزواج المدني حتى، وكأنه بذلك يطمئن المطالبين بزواج مدني بأن الممر الى أي تشريع لزواج مدني يحصل بعد الاعتراف بهذا الحق، على غرار ما تنص عليه الشرائع السماوية التي هي طبعاً تسمح بالاغتصاب الزوجي وفق اللجنة. ونلحظ هنا إصرار اللجنة على الاستناد مباشرة الى الشرائع السماوية من دون المرور بالوسائط الطائفية مع تحميل هذه الشرائع الأفكار الذكورية المحافظة بالكامل لأعضائها. ولعل أسوأ ما في تكريس هذا الحق هو أنه تم مجاناً من دون أي فائدة على صعيد حماية المرأة، بحيث إن ربط الملاحقة بحصول إيذاء وفق قانون العقوبات يجعل هذه المادة من قبيل لزوم ما لا يلزم. ومؤدى هذا التعديل هو قلب الأدوار بالكامل: فعدا أنه يرفض عدّ الاغتصاب الزوجي عنفاً، فإنه قد يؤدي الى عدّ أي إيذاء من طرف الزوجة في حال مقاومة سعي زوجها الى اغتصابها عنفاً، ما يفتح الباب أمام خيبات أمل كبيرة، كأن يكون الزوج المغتصب مثلاً سباقاً الى التشكي ضد زوجته على أساس قانون وُضع أصلاً لحمايتها ضده.
وفي الاتجاه نفسه، حذفت اللجنة تجريم تهديد النساء في قصد السيطرة عليهن أو حجز حريتهن أو إكراهن على الزواج، مكتفية بمعاقبة تهديد الزوجة من قبل الزوج “بقصد استيفاء الحقوق الزوجية في الجماع أو بسببه”.
خروج المرأة عن السلوكيات التقليدية يشكل عنفاً بحق الرجل
هنا، سنتناول جانباً آخر يكاد يكمل الصورة. فبعدما رفضت اللجنة رفضاً قاطعاً تجريم أبشع التصرفات الآيلة الى هيمنة الرجل، ذهبت في موقف لافت الى تضمين لائحتها جرائم تتمثل بالدرجة الأولى في خروج المرأة عن سلوكياتها التقليدية كامرأة وعلى رأسها موجب الحشمة.
وأبرز الشواهد على هذا التوجه تمثل في مبادرة اللجنة الى إدخال المواد المتصلة بالزنى والواردة ضمن قانون العقوبات ضمن لائحة الجرائم التي تشكل عنفاً زوجياً والتي تسمح إذاً بالمطالبة بتدابير حمائية من قبل الزوج المتضرر منه. ولم توضح اللجنة الأسباب التي دفعتها الى ذلك، إنما اكتفت في أسبابها الموجبة بالإشارة الى تكريس المساواة في جرم الزنى بين الذكور والإناث، بحيث ساوى المشروع بين الزنى المرتكب من الرجل بالزنى المرتكب من المرأة، من حيث عناصر الجرم ومن حيث العقوبة التي بات حدها الأقصى سنتين في جميع الحالات، بعدما كانت سنة فقط بالنسبة الى زنى الرجل. كما أدخلت اللجنة ضمن لائحة جرائم العنف اتخاذ أي من الزوجين خليلاً جهاراً. وبالطبع، المساواة هنا أيضاً شكلية محض بحيث إن الزنى يبقى بالدرجة الأولى واقعياً جرماً معزواً للمرأة: فأن يكون للرجل حق التطليق أو تعدد الزوجات في أي حين وفق ما تتيحه قوانين أحوال شخصية عدة، وأن يكون له غلبة اقتصادية، يجعل ملاحقته بجرم الزنى أمراً نظرياً بحتاً. ومن هذه الزاوية، بدت اللجنة مرة أخرى وكأنها تستغل مبدأ المساواة على أساس الجنس لفرض حلول مضرة بمصالح المرأة. وتالياً، يظهر بوضوح قصور المساواة كقاعدة تقنية ومدى قابليتها للاستغلال، سواء في استعمالها في صوغ مواد الحماية أو مواد المعاقبة.
وبإدخال هذه المواد، يتسع عملياً كما سبق بيانه تعريف العنف ليشمل ليس فقط السلوكيات العنيفة التي يتهم بها الرجل عموماً، إنما أيضاً السلوكيات التي تخرج عن الآداب العامة التقليدية كالزنى أو الخروج عن موجبي الطاعة والحشمة اللتين تتهم بهما المرأة إجمالاً، بحيث يظهر مفهوم العنف محكوماً بالمنظومة الأخلاقية السائدة. ومهما كان السبب في إدخال هذا العامل، فإن من شأنه أن يستحضر الحجج الشرعية والتقليدية التي غالباً ما تبرر عنف الرجل بتأديب المرأة في حال نشوزها أو خروجها عن موجب الحشمة، وتالياً في فتح أبواب واسعة أمام تبرير العنف (عمل مشروع لاستيفاء الحق) وتمييع المسؤولية في شأنه (ردة فعل مشروعة أو على الأقل يمكن تفهمها في مواجهة عنف تسببت به المرأة من خلال خروجها عن موجب الحشمة). وهذا ما نقرأه بوضوح كلي في النظام السعودي للحماية من الإيذاء (والذي وصف بأنه قانون لحماية المرأة التي لم تذكر قط من العنف) والذي عرّف الإيذاء بأنه يشمل إساءة المعاملة التي تتمثل في امتناع شخص عن الوفاء بواجباته في توفير الحاجات الأساسية لشخص آخر[3].
وبذلك، أمكن القول بأن المشروع المعدل لم يعمد فقط الى إلغاء المساواة الإيجابية لمصلحة النساء بحيث يشمل كل من يتعرض للعنف من دون تمييز، بل ذهب أبعد من ذلك ليصل الى حد تحوير مفهوم العنف كما سبق بيانه في المقدمة. فهو خفف كثيراً الأضواء على العنف المرتكب عموماً من الرجال الى حد إطفائها في حالات عدة مع توجيه هذه الأضواء بالمقابل في اتجاه العنف المرتكب عموماً من قبل النساء ضد هؤلاء والذي غالباً ما يشكل مبرراً لردود أفعالهم. بل أخطر من ذلك، فإن غاية المشروع تصبح ليس فقط محاربة سلوكيات العنف الذكوري الذي لا يقيم اعتباراً لشخصية النساء وحريتهن وكرامتهن وحسب، إنما أيضاً وفي الوقت نفسه فرض السلوكيات النمطية ومفادها إلزام النساء في الخضوع لموجبي الطاعة والحشمة مع ما يستتبع ذلك من تخل طوعي عن الحرية وكثير من الكرامة.
أمر آخر يدل على إخضاع مفهوم العنف للسلوكيات النمطية، استعادة تجريم الدعارة. فبعد عد تحريض الآخرين أو إكراههم على ممارسة الدعارة عنفاً، يعود المشرع ويؤكد معاقبة ضحية العنف بالعقوبة نفسها وكأنه يساوي مرتكب العنف بضحيته.
وبهذا المعنى، يعكس تعديل تسمية القانون، ليس فقط نية في تجريده من رمزيّته، إنما أيضاً، وقبل كل شيء، تحويراً في سبب وجوده وغاياته.
هل تمنح تدابير الحماية المنصوص عليها خياراً آخر للنساء؟
في هذا الصدد، سنبحث فيما إذا كان من شأن تدابير الحماية المنصوص عليها في القانون أن تمنح النساء واقعياً خيارات أخرى تسمح لهن بالخروج عن قوانين الصمت والخنوع والطاعة، في اتجاه استشراف شروط حياتية أفضل، علماً أنه كما سبق بيانه، لم يتضمن القانون أي جرم جديد لم ينص عليه قانون العقوبات، إنما اكتفى بتشديد العقوبات بخصوص بعضها من دون أن يؤدي ذلك الى جعلها أكثر ردعاً.
إلا أنه على الرغم من ذلك، فقد تضمن المشروع جديداً في محلين اثنين:
الأول، فتح الباب أمام تدابير حماية مختلفة مع تسهيل الحصول عليها من خلال إعطاء القاضي المختص وقاضي الأمور المستعجلة حق تقريرها ضمن أصول مستعجلة، فضلاً عن إعطاء النيابة العامة حق اتخاذ قرارات معينة بانتظار صدور أمر الحماية عن المرجع المختص. كما تم تسهيل هذه التدابير من خلال إنشاء صندوق من شأنه الاسهام في مساعدة ضحايا العنف.
والإشكالية الكبرى في هذا المجال إنما تتأتى عن الخيار الذي اعتمدته اللجنة في شأن اشتمال تدبير الحماية للأطفال أيضاً، بحيث يكون للزوج ضحية العنف أن يخرجهم معه. فقد عرفت اللجنة الأطفال المشمولين حكماً بأمر الحماية بأولئك الذين هم في سن الحضانة وفق أحكام قوانين الأحوال الشخصية وسائر القوانين المعمول بها، وذلك صوناً لاختصاص المحاكم الدينية. أما “باقي الفروع وسائر المقيمين معها، فيستفيدون من أمر الحماية إذا كانوا معرّضين للخطر” (مادة 12). وبالطبع، من شأن هذا التحديد أن يثني النساء ضحايا العنف عن تفعيل هذا القانون أو المطالبة بالحماية كلما كان من بين فروعهن أطفال تعدوا سن الحضانة، ولا سيما إذا كان يصعب إثبات تعرّضهم للخطر.
الثاني، اعتماد بعض الأفكار على صعيد المؤسسات المكلفة بتطبيق القانون. ومن أبرز هذه الأفكار، اعتماد التخصصية كضمانة لحسن تطبيق القانون. فقد نص المشروع على أن يكلف النائب العام محامياً عاماً أو أكثر في المحافظة بتلقي الشكاوى المتعلقة بحوادث العنف الأسري ومتابعتها (مادة 4). كما نص على أن تنشأ لدى المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي قطعة متخصصة بجرائم العنف الأسري تتولى مهام الضابطة العدلية في الشكاوى المقدمة والمحالة اليها وفق أحكام القانون وتغطي أعمالها الأراضي اللبنانية كافة. ويراعى في تشكيلها أن تضم عناصر من الإناث وأن يكون عناصرها مدربين التدريب الكافي على حل النزاعات والتوجيه الاجتماعي. كما نص المشروع تيمناً بالتحقيقات الجارية مع الأحداث على حضور مندوبين اجتماعيين عارفين بالشؤون الأسرية وبحل النزاعات (مادة 5). ومع التأكيد على أهمية التخصص أو التدريب، إلا أن التجربة اللبنانية غالباً من تظهر أن من شأن تخصيص بعض القطع أو النيابات العامة أو المحاكم بالتحقيق في شأن معين وتالياً في حصر التعاطي بهذا الشأن في مرجعية أو جهاز واحد، أن يؤدي الى نتائج معاكسة: فبدل أن يخدم هذا الجهاز مصالح الفئة المستضعفة أو المعرّضة للغبن بفضل اختصاصه، تسخر السلطة انحصار الاختصاص في مرجع واحد لفرض اجتهادها وسياستها من خلال التحكم به.
نُشر في العدد الحادي عشر من مجلة المفكرة القانونية
لمشاهده الخبر علي موقعه الأصلي من فضلك أضغط هنا