قبل الأحداث الأخيرة كنت قد تابعت باهتمام الحوار الدائر بين الأستاذ أحمد سمير والأستاذ عمرو عزت عن دور الشريعة وأحكامها فيما يخص المرأة في الدستور الجديد، وبما أنني أصر أن نولي اهتمامنا لما يتم استدراكنا بعيدًا عنه، وبما أنني مواطنة مصرية ارتبطت التاء المربوطة بكلمة «مواطن» لوصفي، فأعطتني بعض الحقوق والحريات وحرمتني من البعض الآخر، وددت أن أطرح بعض الأسئلة التي قد تساعدنا للوصول لدستور أفضل في يومٍ من الأيام.
بداية، أود أن أسجل كامل موافقتي مع الأستاذ عمرو عزت في مجمل مقاله، فالآن ونحن بصدد كتابة دستور «ثوري» جديد الأجدر بنا أن نتذكر أن الأمم القوية عادةً ما تقاس اليوم بمدى الرقي التي تُعامل به المُهمَّشِين في صفوف مواطنيها، هل تعطي الفقير وذوي المعتقدات الأخرى – السماوية وغير السماوية – ومتحدّي الإعاقة والعاطلين عن العمل والحوامل والعجزة والأطفال والمرضي حقوقًا تضمن لهم عيشة كريمة بالرغم من رقة حالهم أم لا؟ فهذه الأمم عادةً لا تمشي حسب قانون الغاب مع مواطنيها الذي يُغلب القوي على الضعيف، بل هي أمم أعطت العقل والرحمة قيمة أكبر من القهر. مثلما فعل الرسول عند فتح مكة وفيما بعد عندما أصبح في عداد الأقوى آنذاك، فلماذا لا نستطيع أن نتخذ هذا الطريق سبيلاً؟
يساعدنا هنا العالم البرازيلي الكبير باولو فرير لفهم هذه الظاهرة في كتابه «تعليم المقهورين» والذي بسببه تغيرت مناهج التعليم في كثير من دول العالم، فمن كان مقهورًا في علاقة مغلقة لا نستطيع أن نتوقع منه أن يصبح رحيمًا بزملائه القدامى المقهورين، أو أن يلعب دورًا في تحريرهم عندما تعطيه بعض القوة، فتجده يُقهرهم مثلما كان يُقهَر من ذي قبل. ما ينقذنا من هذا المصير المشؤوم هو أن ندخل فيما يسميه فرير «عملية خلق وعي» لكي نفهم لماذا نحن في حلقة القهر هذه؟ هل هي حلقة حتمية؟ هل لون جلدي أو طبقتي أو جنسي أو ديني يحتم عليَّ هذه المعاملة والحقوق والواجبات من الآخرين أم لا؟ مَن أكثر المستفيدين من استمرار حلقة القهر هذه ؟ وما هو دور القاهر والمقهور في خلق المعرفة والعلم الذي يساند ويبرر استمرار هذا القهر؟
كلنا في مصر ما بعد الثورة نحتاج أن ندخل في عملية خلق الوعي هذه، خصوصًا ونحن نكتب دستورنا الجديد، وأرددها: كلنا.
ويأتي هنا سؤالي، إن كنا قررنا أن نختار ألا نسلك طريق هذه النوعية من الأمم، وقررنا أن نُغلب من يعتقد أنه الأقوى على من يعتقد أنه الأضعف بحجة اتباع دين الله، لماذا نُصِرُّ دومًا على اتباع الطبعة القهرية من هذا الدين؟ ما هي الأسباب التي جعلتنا اليوم نشعر بأنه لكي يكون الدين صحيحًا يجب أن يرتبط بعدم المساواة والقهر؟ فكلما كان الشيخ أو القسيس أو الكاهن يشجع الانغلاق والتفرقة بين البشر احترمناه وشعرنا بأنه الأقرب إلى الله؟ هل هذه صفات يشجعها فعلاً ربي وربك؟ نعرف جميعًا أن الجواب: لا قوية. أعتقد أن الإجابة تكمن فيما ذكرته سابقًا عن تعليم المقهورين والذي تذوقناه جميعًا كمصريين بتمعن. وتكمن هنا أيضًا إشكالية أحكام الشريعة عند البعض.
فكما درّسونا من قبل، الشريعة هي الرسالة الإلهية التي من المفترض أنها لا تتغير بالزمان والمكان للوصول لدنيا وآخرة أفضل. أما الفقه فهو المحاولات الإنسانية المستمرة والمتغيرة لفهم هذه الرسالة الإلهية، ولكي يفهم العلماء هذه الرسالة طوّروا ما سُمِّي بعلم أصول الفقه وهي القواعد والأدوات المعرفية، القياس مثلاً، التي يستخدمها الفقيه لاستنباط «الأحكام» من المصادر الشرعية (القرآن والسنة)، إذن فعادةَ ما تكون الأحكام هي مجهود بشري لفهم الإرادة الإلهية، ويكون هذا المجهود البشري متأثرًا بما حوله من تطور أو عدم تطور في شتى المجالات.
فحكم «الحمل المستكن» مثلاً، وهو أحد أحكام الشريعة المعروفة، لم يكن ليرى النور لو أن التطور الذي وصلنا له اليوم في علم الأَجنّة كان متاحًا للفقهاء القدامى، فقد اتفق فقهاء المذاهب الأربعة على أن أقصر مدة للحمل ممكنة هي ستة أشهر، ولكنهم اختلفوا في أطول مدة إلى ما بين سنة أو أربع، وعليه فالطفل الذي يولد بعد موت أبيه بثلاث سنين مثلاً يُنسب لهذا الأب وله حق في الميراث. هل نحن مستعدون اليوم أن نأخذ هذا الحكم ونعمل به؟
ولكن دعنا من الحمل المستكن، فكثيرون يرونه غير واقعي بالرغم من أنه يُعد أحد هذه الأحكام التي نُدعى اليوم إلى اتباعها، ماذا عن حكم الشريعة الخاص بولاية الأب في تزويج ابنته البكر والتي لم تبلُغ بعد؟ فاتفق الكثير من الفقهاء على أن من حق الأب أن يُزوج ابنته البكر الطفلة دون الرجوع إليها، يبدأ الخلاف يدب بينهم فقط عندما تكون هذه البنت قد بلغت، فهل رضاها لازم هنا أم لا؟ عندما نعرف اليوم المخاطر الجسدية لتزويج الأطفال وأن هناك قرى بأكملها في مصر يُزوِّج الآباء بناتهم لأثرياء عرب بشكل متكرر في صورة دعارة مُقنعة مستندين للشرعية الدينية والاجتماعية التي تعطيها لهم هذه النوعية من الأحكام، فهل لا نزال نطالب بهذا الحكم أن يكون له أي تأثير قانوني في مصر ما بعد الثورة؟
ما أريد أن أقوله هنا إن هؤلاء الفقهاء القدامى بذلوا قصارى جهدهم في حدود معرفتهم المتاحة وقتها ونجحوا في بعض الأحيان للوصول لأحكام شرعية نستطيع تقبلها اليوم والاستفادة منها في طريقنا للوصول لحياة أفضل، ولكن في أحيانٍ أخرى تتنافى هذه الأحكام البشرية مع ما وصلنا له اليوم من علم ومعرفة ومصلحة للعالمين.
لقد ذكر الأستاذ أحمد سمير في مقالته بعض التشريعات القانونية المبنية على أحكام شرعية، والتي تقف أمام تحقيق المساواة بين المواطنات والمواطنين المصريين، منها الميراث، الطلاق بالإرادة المنفردة للرجل، تعدد الزوجات، وحق الزوجة في النفقة. وددت أن أسرد سريعًا بعض الأمثلة التي ستساعدنا على توسيع خيالنا لمكان أكثر رحابة لا يُنكر على الدين قدرته للاقتراب من تحقيق المساواة بين الناس إن أردنا له ذلك، فمثلاً نجد في قوانين أحوال شخصية لدول عربية وإسلامية مثل ليبيا و الجزائر أن الطلاق يجب أن يتم في المحكمة أمام القاضي وليس فقط بالإرادة المنفردة للرجل تفاديًا للطلاق الشفهي غير المسجل ودرءًا لمفاسده، كما أن دولاً مثل المغرب قننت ما سموه «الطلاق للشقاق» استنادًا إلى القرآن والذي يتقدم به الرجل أو المرأة للقاضي بالتساوي طالبين الطلاق بناءً على أسباب شقاقهم ويحكم القاضي بالطلاق والتعويض للطرف المتضرر حتى لو كان الطرف المتضرر هو الرجل، أما تعدد الزوجات، فبغض النظر عن أنه في انخفاض مستمر نظراً للظروف الاقتصادية وتغير نظرة المجتمع له، فقوانين بعض الدول عملت على وضع شروط مختلفة له مُحاوِلَة محاصرة أضراره والسماح به في حالات الضرورة فقط ومنها قوانين في الأردن وسوريا والجزائر والمغرب. أما الميراث، فتتشرف مصر بأنها من أوائل الدول التي أبدعت حل «الوصية الواجبة» والتي أخذته منها دول عربية عدة لعلاج ظلم يحدث للحفيد الذي يموت والده في حياة الجد، فيُحرم الحفيد من الميراث عند موت الجد إذا طبقنا أحكام المواريث بشكل نقلي مغلق وغير عقلاني. فكل هذه أمثلة أن الأمور ليست مغلقة كما تبدو لنا وأن «الشريعة» ليس ضروريًا لها أن تلتصق بعدم المساواة لتكون شريعة «حقيقية»، فهناك مساحة من التفكر والتصرف والاقتراب من المساواة إن نحن بدأنا نخلق لدينا الوعي الذي يلفظ القهر والتفرقة ويرحب بالمساواة والحرية.
أما حق الزوجة في النفقة، فهذه حقيقة معضلة تواجه دولًا عدة مثل مصر، فنحن نعلم أن ثلث بيوت مصر تعولها النساء منفردات، أما الثلثان الباقيان فأصبحت مشاركة المرأة في الإنفاق على الأسرة شبه محتومة في ظل الظروف الاقتصادية الطاحنة، والمرأة أيضًا تصرف على بيتها بعملها المجاني داخل المنزل، لأنها توفر على أسرتها شراء الخدمات التي تقوم هي بها منزليًا (علمًا بأنه حسب أحكام الفقه الزوجة غير ملزمة بموجب عقد الزواج الإسلامي بالقيام بالأعمال المنزلية، هي فقط ملزمة أن تتيح نفسها جنسيًّا للزوج، وهذا موضوع يطول شرحه)، ونعلم كلنا أن أحكام النفقة في المحاكم تذهب أدراج الرياح ولا تجد من ينفذها للنساء، فعن أي نفقة وأي طبقة اجتماعية من الرجال نتكلم في أرض الواقع؟ حاول قانون الأحوال الشخصية للمسلمين السنغافوريين أن يحل هذه المعضلة بالحفاظ على الذمة المالية المنفصلة لكلا الزوجين، فأعطى الزوجة المسلمة المُطَلقة، على الأقل، ثلث الثروة التي تكونت أثناء علاقة الزواج فقط (لا يدخل في الحسبة هنا أي أموال أو عقارات ورثها الزوجان)، وتزيد النسبة بزيادة مشاركتها في النفقة على أسرتها خلال هذا الزواج لحفظ حقها وحق أولادها من بعدها.
هناك كتاب جديد صادر في سبتمبر 2012 يُحدث الآن ضجة كبيرة في الغرب عنوانه «نهاية الرجال»، يتحدث الكتاب عن الصعوبات المتصاعدة أمام الرجال للقيام بدور الحماية والإنفاق المُتوقع منهم بسبب توغل الرأس مالية العالمية، التي تُغلق المصالح والمصانع وتقلل من تكاليف الأيدي العاملة لمصلحة رجال الأعمال وزيادة أرباحهم (بتشجيع من مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي). فتجد النساء أنفسهن في موقع القبول بأي وظيفة للصرف على متطلبات الأسرة ليكنَّ عائلها الأساسي، ومنهن من تتطور وتتقدم في عملها في النهاية، ولكن أليس هذا نوعًا من القهر على الرجل وعلى المرأة المضطرة التي لم تختر هذا المصير؟ ألا نرى أنه عندما تعاني مواطنات هذا البلد يعاني مواطنوه أيضاً والعكس صحيح، ألا نرى أن المشاكل كلها مرتبطة ببعضها ارتباطاً قوياً وأنه لا جدوى من تهميش مشاكل المرأة؟ ألا نرى أنه بالفعل في النهاية، شئنا أم أبينا…مشكلتي هي مشكلتك؟
هذا التطور السريع في الأدوار والمشاكل لم يكن موجوداً في الوقت الذي تطورت فيه أحكام الشريعة على أيدي فقهاء عُتاة في مجالهم، من يدرس في هذا المجال اليوم يعرف أن الفقه الإسلامي في زماننا هذا يواجه ما يسمي بـ«أزمة معرفية» حقيقية وخصوصاً فيما يتعلق بالنساء، لأنه مضطر أن يواجه واقعًا جديدًا بمعرفة و مُسَلّمات ليست جديدة، وإن كان لديه الأدوات اللازمة بداخله للتطوير والتفاعل مع الواقع بشكل أفضل، ولكن يلزمنا أن تكون عندنا الإرادة للفظ القهر وعدم المساواة والتخلص من الخوف، ولقد كتبت في كل ذلك سابقاً.
يبقى أن نعرف أنه على مر التاريخ وخصوصا ما قبل نشأة الدولة الحديثة، كانت منظومة القانون الإسلامي منظومة رَحِبة، تتفاعل مع الواقع، تأخذ منه وتعطيه، تختلف فيما بينها وترى أن هذا الاختلاف رحمة، رفضت بإباء وشمم أن يكون عليها وصي أو مرجعية واحدة تحدد للجميع ما هي الشريعة لتحمي نفسها وتحمي الدين الذي تنتمي إليه من التسلط، كانت منظومة حية، تتنفس مع المجتمع فاحترمها، ولكن عندما حاولنا احتواءها وغلقها في نصوص قانونية جامدة تصدرها برلمانات منتخبة بناءً على مواد دستورية محددة، تَكلّست وفقدت قدرتها على الحياة والتفاعل. ومع كامل احترامي لتراث المحكمة الدستورية العليا المحترم في التعامل مع الأحكام قطعية الدلالة ففي النهاية كلها مجهودات بشرية حاولت بصدق التعامل مع واقع معقد جدًا، لكنها احتاجت إلى مواءمات لإنقاذ المجتمع وليس بالضرورة للدفع به قُدُماً، هذا سببٌ آخر أضمه للأسباب التي ذكرها الأستاذ عمرو عزت في مقاله المشار إليه.
وإلى أن نجد حلاً مجديًا للتعامل مع كل هذه التطورات، فيقترح البعض أن كلمة شريعة في الدستور تكون دائمًا مقترنة بكلمة «مبادئ» بدلاً من كلمة «أحكام»، كما هي مكتوبة بالفعل في المادة الثانية، ولكي يكون الدستور متسقًا مع نفسه.
لا أعرف إن كان هذا بالفعل حلًا أم لا، ولكني أطرحه هنا للنقاش.
ما أعرفه هو أننا بعد الثورة نستحق أحسن بكثير من المعروض علينا الآن، وأننا في أيام ليست ببعيدة في يناير 2011 كنا كلنا مقتنعين أنه بالفعل مشكلتي هي مشكلتك، وكنا مستعدين دفع حياتنا ثمنًا لذلك في يومٍ من الأيام.