بقلم بلال فضل
قرأت عنوان الرسالة فسارعت إلى فتحها قبل غيرها من الرسائل التى تصلنى على بريدى الإلكترونى، «شاهدة عيان»، لا أدرى لماذا ظننت أن الرسالة يمكن أن تحتوى على أى تفاصيل عن مجزرة الإسكندرية يمكن أن أنشرها لكى تساعد أجهزة التحقيق، أو حتى أن أرسلها إلى من يهمه الأمر إذا كانت تفاصيل سرية.. فتحت الرسالة فوجدتها مرفقة بصور ما إن قمت بفتحها حتى صدمتنى رؤية منظر الدماء، دماء تسيل على أرض لم أتبين معالمها، لأننى سارعت بإشاحة النظر عنها، فقد كنت لا أزال أحاول التعايش مع تأثيرات سيل الصور الدامية التى رأيتها على التلفاز والإنترنت،
فجأة لمحت شعار رئاسة الجمهورية فى إحدى الصور المرفقة مع الرسالة، لم أفهم الأمر إلا عندما فتحت نص الرسالة التى اتضح لى أنها مرسلة من المواطنة المصرية «إيزيس فتحى عبدالملاك»، التى كانت شاهدة على ما جرى فى مجزرة الإسكندرية، وقررت أن ترسل، من خلال بريدى الإلكترونى، أو ربما من خلال كُتاب آخرين أيضاً، رسالة مؤلمة إلى السيد رئيس الجمهورية محمد حسنى مبارك، وها أنا أبلغ الرسالة وأنشر رسالتها كما وردتنى بكل ما فيها من علامات استفهام وأوجاع وآلام لعلها تصله، فيبادر سيادته بالرد عليها كما فعل قبل سنوات.
«السيد رئيس الجمهورية.. أنا شاهدة عيان أحاول كسر صمتى كى أقترب منك فى هدوء دون ثورة ولا غضب ملطخ بدماء أهلى وأصدقائى.. أرجو أن تتريث حتى أنهى رسالتى وتهبنى بعض الصبر لكى تتفهم كلماتى.. منذ عدة سنوات لم أعد أتذكرها جيداً.. كنت لم أبلغ عامى التاسع بعد، كنت لا أعى من وطنى سوى احتفالات أعياد الطفولة.. و٦ أكتوبر.. مدرستى.. أصدقائى.. جيرانى.. وأيام رمضان وبوجى وطمطم وعمو فؤاد.
وفى يوم من تلك الأيام قالوا إن السيد الرئيس أُطلق عليه النار فى أديس أبابا فذهبت وسألت أمى: هو إحنا ممكن نروح نزوره ونقوله سلامتك؟ فقالت لى أمى: يا حبيبتى إحنا صعب نزوره وهو خلاص بقى كويس ماتقلقيش.. وبعد قليل شاهدت الأغانى الوطنية على شاشة التليفزيون والقلق الذى ساد كل الأجواء، فذهبت إلى حجرتى وأحضرت جميع أقلامى وألوانى وورقة بيضاء، وجلست أرسم بكل ألوانى وأكتب إليك رسالتى الأولى.. الأولى من نوعها فعلاً، وقلت فيها: بحبك أوى عشان أنا بحب مصر.. ونفسى فى صورة ليك أعلقها فى أوضتى جنب صورة بابا، وأخذت أرسم بألوانى وأزخرف الصفحة بكل ما لدىّ من طاقة، وأخذتها إلى عائلتى كى يساعدنى أحد على إرسالها إليك.
سخروا منى بالطبع، وشعرت بذكاء طفلة التاسعة أنه لا أحد سوف يستجيب لى، ولكن نظرت أمى إلىّ، وقالت: أنا هابعتهولك، بكرة نجيب طابع بوستة ونبعته، وهذا ما حدث ودون الغوص فى تفاصيل.. كانت المفاجأة بعد أسابيع.. بعد نسيان الجميع لما حدث، وبعد فقدانى الأمل فى ردك علىّ.. جاء ساعى البريد بالرد.. ولن أعلق عليه.. لأن الرد مرفق مع رسالتى.. ولكن ما يضحكنى أننى ظللت سنوات أصدق أنك بالفعل الذى قمت بالرد علىّ.. ولكن سرعان ما أدركت الموقف بعد سنوات نضوجى.. أننى كنت مثل الكثيرين الذين تم الرد عليهم.
وظلت السنوات تمر وأنا أحتفظ به فى صندوق ذكريات الطفولة.. حتى أخرجته اليوم.. أيام وأيام كنت أتذكره ولا أحاول أن أخرجه من مخبأ الذكريات.. تذكرته يوم مقتل خالد سعيد.. يوم المختل الذى دار على الكنائس ليجنى ضحاياه كما يريد.. يوم شهداء الميلاد الأبرياء.. أتذكره كلما أشاهد الصراع على رغيف العيش.. وفى عيون أطفال الشوارع.. تذكرته كثيراً ولم أخرجه.
واليوم بعد أن صرت شاهدة عيان، بعد حوالى ستة عشر عاماً مضت على رسالتى الأولى إليك.. لن أستطيع أن أمنع قلمى من الكتابة إليك.. بعد أن غاصت قدماى فى بحور دماء أهلى وأصدقائى.. أدرك تماماً أنك قد تكون غاضباً.. وقد يقول البعض إنك غير مسؤول، فهذا هجوم خارجى ندفع ثمنه جميعاً.. وطن وأرض وبشر..
ولكنك المسؤول أمامى عن هذا الوطن، دعنى أكسر صمتى وأروى لك عن بحر دماء أبنائك.. وأشلائهم التى تطايرت حتى سكنت الأشجار، دعنى أصف لك حال الابن وهو يقف فى المشرحة ليبحث عن أمه بين أجزاء بشرية ليس لها معالم، ومريم التى كانت منذ لحظات تتمنى عاماً جديداً يحمل لها تحقيق الأمانى والأحلام.. لم تدرك مريم أنها بعد قليل سوف تودع هذا العالم البغيض على أيدى وحوش أغبياء.. دعنى أجعلك تنصت لصرخات أم ليلة عيد على ابنتها العروس التى كانت تترجى من عالمنا الحب والبهجة والسلام.
ثم.. وقفنا جميعاً نودع أصدقاءنا، حاملين ما تبقى منهم فى صناديق صماء كادت تصرخ من فرط سخونة دمائهم.. مَنْ مسؤول أمامى عن أمان أرضى وأهلى وأحبائى سواك، وإن كنا لا نترجى الآن سوى الله فيما سيحدث لنا غداً.
كثيراً ما كتبت عن مجازر العراق وفلسطين ولبنان ولكنى لم أتخيل يوماً ولا لحظة واحدة.. أننى سأفقد أصدقائى وأصير ألملم أشلاءهم من فوق الأشجار، وأمسح دماءهم من فوق الحوائط فى ليلة عام جديد.. وأصير واحدة من هؤلاء الفتيات اللائى كنت أشاهدهن فى النشرات الإخبارية يصرخن على فقدان الأحباء.
إن كنا أمة راضية بهوان الحال.. صامتة على الفقر والظلم، جالسة دون حراك فى ترقب لغد فقد طعم مستقبل الأحلام، فإلى متى نصمت جميعاً؟؟؟؟؟، حتى ليلة العيد القادمة؟؟؟؟؟.. حتى نصير نختبئ كالجبناء؟؟؟؟.. لن أسألك كيف وصل إلينا هؤلاء الوحوش.. من أدخلهم للبلاد.. من دعمهم؟؟؟.. كم خائناً باعنا فى الطريق.
كلنا، مسيحيين ومسلمين، نسألك: أين كنتم جميعاً.. أين؟؟؟ ولكنى أجد العذر لشرطتنا الجليلة بسبب انشغالها بالقبض على النشالين والضرب فى الأقسام.
حزنى قد فاق كل الأسى بعد أن فقدت طعم الوطن.. وأنا أقف أمام حائط ملطخ بدم برىء.. والآن.. ما الجديد؟؟؟ جاء الصباح والكل عاد كما كان.. ولكن دماءهم مازالت تصرخ من الشوارع وفوق الجدران.. ماذا عندكم من الجديد اليوم؟؟؟
من يمحو من ذاكرتنا صورة الألم اللعين والحزن الأسود الذى ليس لمرارته مثيل؟؟؟ ألوم مَنْ على صديقتى وعلى حلمها الصغير.. ألوم مَنْ على أسرة صغيرة كانت ذاهبة تصلى مترجية فرحة العيد؟؟؟؟ ألوم مَنْ؟؟؟
وفى النهاية.. التى ما لها من نهاية.. سلامى لجميع شهداء الأرض، مسيحيين منهم ومسلمين، فى فلسطين والعراق ولبنان.. سلامى لكل من وقف يلملم أشلاء أصدقائه وأهله من الشوارع بسبب أغبياء تنصلت منهم البشرية ولفظتهم منذ أمد بعيد.
سلامى إليك يا رئيس وطنى الحزين، وسامحنى على كسر صمتى دون الالتماس والتقدير.. فأنا كنت هناك شاهدة على الموت المرير.. كنت هناك.. ومَنْ يمحو من ذاكرتى مشهداً توقف عنده الزمن وأطلق معى صرخة الفراق والألم المميت لوطن السلام والحب والحنين.
ملحوظة: فى خطابى الأول طلبت منك صورة شخصية لك كى أعلقها فى حجرتى.. الآن أطالبك بصورة أخرى.. صورة وطن فقدناه.. صورة حلم أضعناه جميعاً».
«إيزيس»
شاهدة عيان