عندما طُلب مني كتابة شهادة شخصية عن العمل في مجال حقوق النساء والنوع الاجتماعي، أردت أن أتحدث عن المسكوت عنه في الدوائر المصطلح على تسميتها بالتقدمية، أردت أن أتحدث عن حجم العلاقات المسيئة والمؤذية عاطفيًا وجسديًا التي نقع في أفخاخها دون إدراك كافٍ ودون أن نتعلم كيف نطلب المساعدة، أردت أن أتحدث عن كيف يتباهى أغلب المنتسبين لهذه المجموعات بانفتاحهم الجنسي ولكن يبقى إجهاض النساء أمرًا لا يمكن الحديث عنه بأريحية، ويبقى شأنًا تتشاركه النساء والفتيات سرًا.
لكن تذكرت أو ذُكرت بأن غرض كتابة هذه الشهادة هو محاولة للإجابة على تساؤل لماذا نستمر في عمل ما نعمل رغم ثقل الهزيمة؟ لماذا لم نستسلم بعد؟ من أين نستمد إلهامنا للمواصلة؟ لذا سنرجئ الحديث عما يحبطنا إلى حين وسأحاول الإجابة عن السؤال الذي وجه إليّ.
عندما أنظر إلى تجربة جيلي أندهش كيف شهدنا معًا صعود موجات التحرش والعنف الجنسي خلال سنوات تعليمنا الجامعي في بداية الألفية، وتطور هذه الموجات لتصبح طقسًا موسميًا يتخذ شكل الاعتداءات الجماعية خلال الأعياد والتجمعات. وكيف كانت هذه الوبائية العنيفة المصحوبة بإنكار رسمي ومجتمعي دافعًا لكثيرات منا للانخراط في العمل النسوي قبل الثورة، ثم رأينا بأعيننا أيضًا التصاعد المرعب لحدة الاغتصابات والاعتداءات الجماعية إبان سنوات الثورة (2011-2013). وشاركنا مع المئات في تنظيمات لمقاومة هذا العنف المستشري، ورأينا بعد ذلك اضمحلاله الجزئي والتدريجي وتغير ردود الفعل النساء والفتيات على العنف الواقع عليهن واختلاف رد فعل الدولة ومؤسساتها حيال التحرش والعنف الجنسي. كل هذا خلال ما يربو على العقد بقليل.
يبدو ما حدث كقصة نجاح جميلة، لكن الواقع كان معقدًا ومؤلمًا أكثر بكثير من هذه الرواية المبسطة، لم يكن الأمر سهلًا على الإطلاق، أثمان باهظة دُفعت لنرى هذا التغيير، أثمان من أجساد النساء ودمائهن، ساعات طويلة من أعمار الشابات والشباب المنخرطين في مجموعات مقاومة العنف الجنسي، وقفوا خلالها في الميادين وتحملوا إصابات جسدية ونفسية طاحنة وهم يخرجون الفتيات من دوائر الجحيم وينتقلون برفقتهن داخل عربات الإسعاف، ويتفاوضون مع الأطباء في المستشفيات ويرسلون الناجيات إلى بيوت الأمان أو الأطباء النفسيين.
لا زالت أحداث مظاهرة ذكرى الثورة الثانية في 25 يناير 2013 ماثلة في ذاكرتي، أذكر العشرات وهم يحاولون مهاجمة البوابة الحديدية للمبنى الذي كنا فيه لملاحقة السيدة التي تم تخليصها من بين أيديهم، مشهد كأنه من خارج هذه الدنيا. وأذكر السيدة عندما صعدت إلينا في الشقة التي اتخذنا منها غرفة عمليات نستقبل فيها المكالمات ونوزع منها حقائب الأمان، صعدت إلينا ملطخة بدماء لا نعلم بالضبط مصدرها، أو شكل الاعتداء الذي تعرضت له لتدمى إلى هذا الحد. لا زلت أذكر أندرو، أحد أفراد فرقة التدخل، وهو يرفض أن يظل جالسًا ويصر على العودة إلى الميدان بعد أن أصابته عصا غليظة من أحد المعتدين في قدمه. وأتذكر بسالة لبنى درويش وهي تخرج فتاة ذات 19 عامًا من حادثة اعتداء عنيفة عند مدخل محمد محمود، كانت واجمة وهي معنا في الغرفة تقول لنا كيف كان الاعتداء على الفتاة سافرًا. أتذكر أيضًا أن قسوة الاعتداءات جعلتنا نطلب من فرق التدخل والأمان الانسحاب من الميدان، وأننا لم نتنفس الصعداء إلا عندما تم إخلاء الميدان بعد هجمة قوية جدًا من الداخلية تم فيها ضرب الميدان بالعاز المسيل بالدموع بكثافة شديدة.
لم نكن نعي ونحن في قلب هذا الجنون المحقق أننا نحرز تقدمًا، لم يكن ليل زهرة مرتضى يعلم، وهو يطلب من المتطوعين والناجيات أن يرسلوا شهاداتهم مجهلة أو ممهورة بأسمائهم، أن هذه الشهادات ستقلب الموازين تمامًا، لم تع سلمى وياسمين ومصطفى وغيرهم، وهم يكتبون شهاداتهم التي كانت تنشر يوميًا على مواقع المجموعات والمنظمات المختلفة كيف ستسهم قوة الصوت في رواياتهم في إنهاء إنكار مجتمعي طال أمده.
استشطنًا غضبًا من تصريحات نواب مجلس الشورى في 2013، والتي حملوا من خلالها المتظاهرات مسئولية ما يلحق بهن دون أن ندرك وقتها أن ذلك أول اعتراف رسمي من الدولة أن هذه الحوادث تقع بالفعل، وأن الاعتراف سيد الأدلة حتى لو جاء اعتراف الدولة في شكل لوم الضحية. عندما تغير القانون في مايو 2014 ليستبدل مصطلح «خدش الحياء» بـ«تحرش جنسي» لأول مرة، كنا لا زلنا نتعافى من وطأة الاعتداءات الجنسية التي وقعت خلال أسبوع مظاهرات 30 يونيو 2013، ومن المذابح التي وقعت في صيف العام نفسه، فلم نقدر نجاحنا حق قدره.
إلا أن نجاحنا الأكبر لا يمكن اختزاله في تمرير تعديل قانوني في مادة التحرش، ولا في الدفع باستراتيجية وطنية لمناهضة العنف أو وحدة في وزارة الداخلية لذات الغرض، نجاحنا الأهم هو إزالة الوصم عن المتعرضات للعنف بشكل يمكنهن من الحديث علنًا عما يتعرضن له في الشوارع والمواصلات وأماكن العمل والتنزه، وفي وصم فعل التحرش والمتحرشين لتقل – إلى حد كبير– حالة المباهاة بالتحرش.
قد ننسى ماذا حققنا وسط الهزيمة المنكرة التي تشهدها الثورة، لكن إذا نسينا ستذكرنا أرجلنا التي تستطيع الآن أن تجوب شوارعًا كان من المرعب مجرد التفكير بالسير فيها، ستذكرنا آذاننا التي كانت تُصم بسيل لا ينقطع من الفجاجة التي تبدأ بوصف تفصيلي لأجزاء أجسامنا المختلفة ولا تنتهي بخيالات المتحرشين الجنسية عما يودون فعله بأجسادنا، إذا نسينا ستذكرنا الأريحية النسبية التي نسير بها في الشوارع بعد أن كانت عضلاتنا تئن من فرط التشنج.
أنفقنا بعضًا من العمر لنحفر ثغرة، مر بصيص من النور منها للأجيال مرة، وكنا محظوظين كفاية لنشهد كل ذلك.