مدى مصر: من حين لآخر تطفو «قضايا النسب» على سطح الاهتمام العام، عندما يكون أحد طرفيها من المشاهير، كما حدث في واقعة المهندسة هند الحناوي أو الممثلة زينة. كما كانت شبكات التواصل الاجتماعي ساحة لتجدد الحوار حول تلك القضية، بعد إعلان الصحفية هدير مكاوي عن تقدمها بدعوى قضائية لإثبات نسب ابنها ضد شاب تزوجته بعقد عرفي.
تلفت هذه القضايا الشهيرة الانتباه لما تعانيه النساء في حال اختيارهن – أو اضطرارهن- لإنجاب الأطفال خارج منظومة الزواج الشرعي الموثق. حيث تضطر آلاف الأمهات المصريات، لخوض معارك قضائية طويلة في ساحات المحاكم لإثبات نسب أطفالهن، حتى وإن جاء هؤلاء الأطفال من خلال الزواج العرفي التي أقرته الشريعة الإسلامية، أو حتى نتاج زواج رسمي أحيانًا، كما في حالة ياسمين.
تزوجت ياسمين – اسم مستعار بناء على طلبها- في التاسعة عشر من رجل يكبرها بثلاثين عامًا على الأقل: «أنا اتربيت مع أبويا عشان طلق أمي، وجوزي كان أول حد يقولي كلام حلو ويجيبلي هدايا، عملي حاجات محدش عملهالي قبل كدة. ورغم إن أمي مكنتش موافقة على الجواز، أبويا جوزني عشان ميلتزمش بمصاريفي».
«جوزي قاللي إنه مش عايز بنات، ومكنش عايز يصرف على البنت الأولانية. وداني على بيت أبويا ورفض يطلع شهادة ميلاد للبنت»، قالت ياسمين لـ«مدى مصر» وهي تجلس في مقر مركز القاهرة للتنمية وحقوق الإنسان، الذي ساعدها في رفع قضيتين لإثبات نسب طفلتيها على مدار خمس سنوات تقريبًا.
إلا أن ياسمين اكتشفت زيف هذه السعادة بعد أيام من زواجها: «لقيت نفسي خدامة لجوزي وولاده من طليقته الأولانية». حينما رفض تسجيل ابنته الأولى، رفعت ياسمين قضية لإثبات نسب الطفلة. محامية المركز فاطمة صلاح التي مثلت ياسمين في القضية قالت إن قضية ياسمين الأولى كانت سهلة لأنها كانت متزوجة بالفعل: «قبل جلسة واحدة من إصدار الحكم، أتي زوج ياسمين للمحكمة، وعرض تسجيل الطفلة والصلح مع زوجته، في مقابل التنازل عن القضية».
ربما يظن البعض أن حظ ياسمين أفضل من زميلاتها الأكثر شهرة اللائي اضطررن للذهاب للمحاكم لإثبات أنساب أطفالهن، لكونها تزوجت زواجًا رسميًا تعترف به الدولة. لكنها وجدت نفسها في ذات المتاهة التي اضطرت إليها أخريات، لكونها لا تحوز نسخة من عقد زواجها الرسمي.
تكررت المأساة عقب إنجابها لطفلتها الثانية. لكن هذه المرة، مضت الأم الشابة في التقاضي حتى النهاية وحكمت المحكمة بإثبات نسب الطفلة. ثم تقدمت بدعوى أخرى انتهت لإلزام الأب بنفقة شهرية للأم وبناتها.
فطبقًا للشريعة الإسلامية، فالقاعدة الشرعية الحاكمة لمسألة النسب هي «الولد للفراش». وهي القاعدة التي فسرتها دار الإفتاء المصرية على أنه «لا يثبت نسب الطفل إلى الرجل إلا إذا كان اجتماعه مع أمه في عقد صحيح أو حتى فاسد أو في وطء شبهة، فإذا انتفى العقد الصحيح فلا يثبت النسب شرعًا بإجماع الأمة، وهو منصوص القانون المصري».
ويفصل القانون المصري الحالات التي يمكن فيها للزوج إنكار نسب أي من الأبناء المسجلين بإسمه من خلال زواج شرعي طبقًا للمادة 15 من الباب الثاني بقانون الأحوال الشخصية، في حالات معينة تشمل «لا تسمع عند الإنكار دعوى النسب لولد زوجة، ثبت عدم التلاقي بينها وبين زوجها من حين العقد، ولا لولد زوجة أتت به بعد سنة من غيبة الزوج عنها، ولا لولد المطلقة والمتوفي عنها زوجها إذا أتت به لأكثر من سنة من وقت الطلاق أو الوفاة».
قبل عام 2008، لم تكن الأمهات المصريات قادرات على تسجيل أبنائهن بمصلحة الأحوال المدنية، حتى وإن امتلكن عقود زواج رسمية، حيث اقتصر هذا الحق على الأب والرجال من عائلته مثل الجد والأعمام. إلا أن تعديلات لقانون الطفل في 20088 في مادته الخامسة عشر، أتاحت للنساء أخيرًا تسجيل أبنائهن «شريطة إثبات العلاقة الزوجية علي النحو الذي تبينه اللائحة التنفيذية» وأوضحت اللائحة التنفيذية طبيعة المستند بأنه «مستند زواج رسمي».
ياسمين التي لم تكن تحوز نسخة من مستند الزواج الرسمي، استجابت لدعوة زوجها أمام المحكمة بالتصالح والاعتراف بنسب الطفلة إليه مقابل تنازلها عن القضية، إلا أنه منعها عن التواصل مع المركز الحقوقي الذي تولى قضيتها نهائيًا، فاستجابت: «كنت عبيطة، معرفتش إنه كان بيعمل كل حاجة عشان ميبقاليش ضهر».
لكنها عادت بعدما تكررت المأساة عقب إنجابها لطفلتها الثانية. لكن هذه المرة، مضت الأم الشابة في التقاضي حتى النهاية وحكمت المحكمة بإثبات نسب الطفلة. ثم تقدمت بدعوى أخرى انتهت لإلزام الأب بنفقة شهرية للأم وبناتها.
تبدأ معاناة النساء مع قضايا النسب حينما تفقد الأم أي مستند يثبت علاقة الزواج، حسبما أفاد المحامي المتخصص في قضايا الأحوال الشخصية معتز الدكر. ويشمل ذلك الأمهات المتزوجات اللاتي لا يجدن عقود زواجهن في حوزتهن كياسمين، والأمهات المتزوجات زواجًا عرفيًا، أو هؤلاء اللائي أنجبن بدون زواج. ويصف المحامي المسيرة القضائية بكونها «متاهة قانونية مؤلمة ومعقدة»، خاصة وأن اللجوء للقضاء ليس هو الخيار الأمثل، حيث من الممكن أن يمتد التقاضي لسنوات.
ربما تتمتع الأمهات ذوات الوضع الاجتماعي المرموق بالشجاعة الأكبر لخوض هذه المعركة. مثل الممثلة زينة في معركتها القضائية ضد الممثل أحمد عز لإثبات نسب ولديها عز الدين وزين الدين، وهي المعركة التي أسفرت بعد عام ونصف عن نجاحها في إثبات نسب الطفلين لعز، بعدما رفض الممثل الشهير إجراء تحليل البصمة الوراثية لإثبات النسب.
وعلى الأم التي تقرر رفع قضية نسب أن تثبت حدوث علاقة الزواج، بحسب الدكر، ويكون هذا الإثبات من خلال عقد زواج رسمي أو عرفي، وفي غياب وثائق الزواج، شهادة الشهود أو أي صور أو مراسلات شخصية يمكن استخدامها كإثبات للعلاقة.
وتقدمت مجموعة من المنظمات الحقوقية ورئيسة المجلس القومي للمرأة السابقة مشيرة خطاب بتعديلات لقانون الطفل، لتمكين النساء من تسجيل الأبناء بلقب الأم، إلا أن التعديلات قوبلت بالكثير من الانتقادات، خاصة من قبل الأزهر. وأصدر الرئيس عبد الفتاح السيسي مرسومًا بقانون لتعديل لقانون الضمان الاجتماعي في 2015 تضمن تعديلاً لتعريف اليتيم ليشمل مجهولي النسب.
ويتضمن قانون الأحوال المدنية مادة تتيح للأم تسجيل أبنائها بأي اسم يختاره موظف السجل المدني بشكل مؤقت، لحين الفصل في قضية النسب التي رفعتها الأم. لكن المحامية انتصار السعيد مدير مركز القاهرة للتنمية وحقوق الإنسان تقول إن هذه المادة لا تطبق، حيث لا يمكن للأم التي لا تملك عقد زواج تسجيل الطفل قبل صدور حكم نهائي في قضية النسب.
وأصدرت المحكمة الإدارية العليا حكمًا في 2015، أتاح للأم الحاملة لعقد زواج عرفي تسجيل أبنائها باسم الأب الوارد اسمه في عقد الزواج بشكل مؤقت، حتى صدور حكم نهائي في قضية النسب، وهو الأمر الذي وصفته السعيد بـ«الحق الوحيد الذي اكتسبته النساء المتزوجات عرفيًا».
شيء واحد يجمع آلاف الآباء في قضايا النسب: رفضهم إجراء تحاليل البصمة الوراثية المعروفة بتحاليل DNA. يشير قانون الطفل لمشروعية استخدام فحوص البصمة الوراثية لإثبات النسب بشكل غير مباشر. لكن القانون لا يلزم الأب المُدَّعى عليه بإجراء الفحص، حيث تنص المادة الرابعة على «للطفل الحق في نسبه إلى والديه الشرعيين والتمتع برعايتهما . وله الحق في إثبات نسبه الشرعي إليهما بكافة وسائل الإثبات بما فيها الوسائل العلمية المشروعة».
وتقول المحامية انتصار السعيد إن رفض الأب إجراء تحليل البصمة الوراثية يستخدمه القاضي عادة كقرينة ضده: «إلا أن المشكلة تتمثل في طول إجراءات التقاضي، والوصم المجتمعي الذي يدمر وحده حياة الآلاف من الأمهات والأطفال».
يقول معتز الدكر، المحامي المختص بقضايا الأحوال الشخصية: «إلزام الأب بإجراء التحليل سيعفينا من كل هذه الإشكاليات القانونية، ويوفر علينا كل هذا الوقت. تحليل واحد يثبت بنوة الطفل لوالده أو ينفيها: لن نحتاج لسماع شهادات الشهود، أو وثائق أو أي شيء. يجب أن يُعلي القانون المصلحة الفُضلى لهؤلاء الأطفال على أي شيء آخر».
لكن هذا التعديل القانوني، إذا طبقت بنوده في حال غياب علاقة الزواج الرسمية، قد يعد مخالفًا للشريعة الإسلامية. فقد أجازت دار الإفتاء المصرية إجراء تحليل البصمة الوراثية في حالات النسب «بشرط ثبوت الفراش» المشروطة بإثبات الزواج العرفي أو الرسمي. وفي فتوى أخرى، قالت الدار أن النسب لا يثبت من الزنا، أي العلاقة بلا عقد زواج : «اتفق الفقهاء على أن ولد الزنا يثبت نسبه من أمه التي ولدته؛ وذلك لأن الأمومة علاقة طَبَعِيَّة، بخلاف الأبوة فهي علاقة شرعية. فلا تثبت أبوة الزاني لمن تَخَلَّق مِن ماء زناه. ودليل ذلك قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: “الْوَلَدُ لِلْفِرَاشِ وَلِلْعَاهِرِ الْحَجَرُ” متفق عليه؛ فيفهم منه أن الولد ينسب للزوج الذي ولد على فراشه، وبذلك يثبت وصف الأبوة له شرعًا».
كما يرى الكثيرون أن قصر قضايا النسب على إلزام الرجال بإجراء تحليل البصمة الوراثية ربما يؤدي لزيادة العلاقات خارج إطار الزواج. وهو الأمر الذي قد لا تتقبله المجتمعات الإسلامية، على حد قول آمنة نصير، أستاذ الفلسفة الإسلامية بجامعة الأزهر والنائبة البرلمانية. وقالت نصير لـ«مدى مصر» أنها لا ترى أن مسألة إثبات النسب أزمة تشريع أو مشرعين، «بل هي مشكلة النساء أنفسهن».
تقول نصير: «المرأة عليها واجب توثيق هذه العلاقة أيا كانت. على النساء أن يقدِّرن أنفسهن أكثر من ذلك ويعملن على حماية حقوقهن وحقوق أبنائهن بأي شكل أو طريقة. فحتى لو كان الزواج عرفيًا، عليهن توثيق هذا الزواج، حتى يستطعن حماية حقوقهن وحقوق أبنائهن».
يقول المحامي الحقوقي طاهر أبو النصر، الذي عمل في السابق على هذه القضايا، أن مثل هذه القوانين مصممة لمعاقبة النساء: «القوانين هدفها حماية حقوق الناس، لا أن تضبط سلوكهم الشخصي. يُقال لنا أن إلزام الرجال بإجراء تحليل البصمة الوراثية سيؤدي لزيادة العلاقات غير الشرعية، إلا أن القوانين الحالية تشجع الرجال بالفعل على ذلك وتدفعهم للتنصل من مسؤولياتهم».