راندا أبو الدهب
ينسب لدرية شفيق أحدي رواد حركة تحرير المرأة في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، الفضل في حصول المرأة المصرية على حق الانتخاب و الترشح في دستور مصر العام 1956 .و مؤسسة لدوريات أدبية و باحثة و مناضلة ضد الوجود البريطاني في مصر .
ولدت درية شفيق في مدينة طنطا في دلتا النيل العام 1908، درست في مدرسة البعثة الفرنسية في طنطا، تم ارسالها ضمن أول فوج طالبات من قبل وزارة المعارف المصرية للدراسة في جامعة السوربون في باريس على نفقة الدولة، وحصلت علي ليسانس الدولة من جامعة السوربون ،وهي نفس الجامعة التي حصلت منها على درجة الدكتوراة في الفلسفة العام 1940 ، و كان موضوع الرسالة “المرأة في الإسلام” حيث أثبتت في رسالتها أن حقوق المرأة في الإسلام هي أضعاف حقوقها في أي تشريع آخر.
لدى عودتها من فرنسا برفقة زوجها ، رفض عميد كلية الآداب بجامعة القاهرة تعيينها في الجامعة كونها “امرأة”! وبدأت مشاكلها مع القوي الرجعية في مجتمعها التي كانت تعارض المساواة بين الرجل والمرأة. ولأنها لاتستطيع البقاء دون عمل اضطرت إلي قبول وظيفة مفتشة للغة الفرنسية لكل المدارس الثانوية في مصر, ولكن بدأت مع الوقت تشعر برتابة العمل وبأنها تقوم يعمل أدني من مستواها العلمي, وفي عام1945 ، عرضت عليها الأميرة شويكار منصب رئاسة مجلة المرأة الجديدة التي تصدرها،ثم أصدرت مجلة بنت النيل و التي كانت أول مجلة نسائية ناطقة بالعربية و موجهة لتعليم و تثقيف المرأة المصرية .
وفي عام1946 ضمت( درية) مجلة( المرأة الجديدة) إلي مجلة( بنت النيل) بعد موت الأميرة شويكار وأصبحت( المرأة الجديدة) صوت( درية) النضالي/ الثقافي المتجه نحو الغرب, بهدف نقل صورة حقيقية عن عظمة مصر, أما( بنت النيل) فكانت صوتها النضالي/ النسائي المتجه نحو المرأة المصرية والعربية من الطبقة الوسطي الناشئة, بهدف تحقيق صحوة وعي المرأة بحقوقها الأساسية ومسئولياتها وكذلك إفاقة المتعلمين من الرجال والنساء, ليدركوا واجباتهم ومسؤلياتهم في حل مشاكل الأمة, فأعلنت في أحد المؤتمرات انشاء( حركة جديدة من أجل التحرر الكامل للمرأة المصرية) واطلقت عليها( اتحاد بنت النيل) ولتجديد وتنشيط الحركة النسائية المصرية التي كانت قد ضعفت وفترت بعد وفاة هدي شعراوي.
أسست في أواخر الأربعينيات حركة (التحرر الكامل للمرأة المصرية) التي عرفت باتحاد بنت النيل ، وهي حركة للقضاء على الجهل و الأمية المتفشية بين الفتيات و النساء في عدة مناطق شعبية من القاهرة ، فأسست مدرسة لمحو الأمية في منطقة بولاق ، واستخدمت مقر المدرسة الحكومية الابتدائية في الحي.
و في يناير سنة1950 عندما عاد حزب الوفد للسلطة وأستأنفت الحركات الوطنية نشاطها, أعلنت( درية) عن برنامج طموح للاصلاح الأجتماعي فبدأت هي وزميلاتها بعدد من الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية تم تخطيطها وتوجيهها بوعي نحو خدمة طبقة أخري من النساء, وهن النساء العاملات والمحتاجات في القاهرة، و أفتتحت كافيتريا تقدم وجبات ساخنة مدعومة للنساء العاملات ، وإفتتحت مكتبا لتشغيل طلبة الجامعة.
ومع نهاية عام1950 بدأ اسم( درية شفيق) ينتشر في مصر والشرق الأوسط بفضل نجاح مجلتيها وانتشر أسم( بنت النيل) بين النساء الفقيرات في الأحياء الشعبية في المدن, وبين النساء المتعلمات من الطبقتين العليا والوسطي.كما حوكمت لقيادتها مظاهرة نسائية من اتحاد بنت النيل حيث قمن بمحاصرة بنك باركليز البريطاني في القاهرة في يناير 1951 و دعين لمقاطعته.
وفي عصر يوم من شهر فبراير سنة1951 تحركت( درية) من قاعة ايوارت بالجامعة الأمريكية في القاهرة ومعها ألف وخمسمائة امرأة واقتحمت بوابة( البرلمان) وقادت مظاهرة صاخبة لمدة اربع ساعات حتي اضطر نائب رئيس النواب الي استقبالها بعد أن انتزعت من رئيس المجلس وعدا بأن ينظر البرلمان فورا في مطالب المرأة. لقد كانت هذه اللحظة, لحظة تاريخية فعلا, لا بالنسبة( لدرية) فحسب ولكن بالنسبة للحركة النسائية كلها, وبفضل مسيرة الاحتجاج هذه, أمكن لوفد نسائي أن يطالب للمرة الأولي وفي قاعة البرلمان بحقوق محددة: اولا السماح للنساء بالاشتراك في الكفاح الوطني والسياسي ثانيا: إصلاح قانون الاحوال الشخصية, بوضع حد لتعدد الزوجات, وتقنين الطلاق, ثالثا: تساوي الاجور في العمل المتساوي.
في الاسبوع التالي, وبعد اقتحام البرلمان بأسبوع واحد قدم نائب وفدي مشروع قانون لرئيس مجلس النواب بتعديل قانون الانتخاب ومنح المرأة حق الانتخاب والترشيح للبرلمان.
ولكن تراجع رئيس الوزراء عن الموعد الذي حدده لمقابلة الوفد النسائي, واستدعيت( درية) للمثول أمام المحكمة ليوجه لها النائب العام تهمة اقتحام البرلمان, وقد تطوع للدفاع عنها محامون ومحاميات ولكنها اختارت( مفيدة عبد الرحمن) ونظرا لعدالة القضية ولقوة دفاع المحامين عنها تأجلت القضية لأجل غير مسمى.
وفي نهاية عام1951 وتصاعد الصدام المسلح بين فرق المقاومة المصرية ووحدات الجيش البريطاني دعت( درية) المرأة للمشاركة في النضال من أجل التحرر الوطني فنظم( اتحاد بنت النيل) أول فرقة عسكرية نسائية في البلاد لاعداد الشابات للنضال مع الرجال جنبا الي جنب ولتدريب ممرضات ميدان وتمرين اكثر من الف فتاة علي الاسعافات الاولية, كما قامت بحملة تبرعات لتقديم المساعدات المالية للعمال الذين فقدوا عملهم في منطقة القنال.
وداخل (بنت النيل) المجلة والإتحاد وقفت بين طرفين متعارضين المحامي الشاب الماركسي “لطفي الخولي” الذي تولى سكرتارية تحرير المجلة ، وكان يكتب لدرية مقالاتها .. وبين “الدكتور عبده” أستاذ الصحافة المعروف والذي إعترض على تعاونها مع “لطفي الخولي”. وقابلت رؤساء الهند وسيلان والعراق وإيران وباكستان وهذا لم يمنعها أن تندد بالرئيس الباكستاني عندما إتخذ زوجة على زوجته “هاجمها الأصوليون” لأنها غربية التعليم والمظهر. ولكنها في مذكراتها أكدت: (أن الإسلام الصحيح لا يضع العراقيل أمام حقوق المرأة .. وعندما كانت تحزم حقيبتها للسفر كان يرافقها في سفرها .. القرآن). ولم ترحمها الصحافة في مصر.. أطلقت عليها (الزعيمة المعطرة) و(زعيمة المارون جلاسيه) و(عارضة الأزياء).
وبعد قيام الثورة1952 طلبت من الحكومة تحويل( الاتحاد) الي حزب سياسي وسجلت نفسها رئيسة له, وقد قبل طلبها ليصبح( اتحاد بنت النيل) اول حزب نسائي سياسي.
و في بعض الأحاديث التي كتبها مراسل لجريدة “سكتشمان” الإنجليزية، حيث يقول: (إن الأهداف المباشرة لحزب بنت النيل هي كما أوضحتها الدكتورة “درية شفيق”: منح المرأة حق الاقتراع، وحق دخول البرلمان، والمطمع الثاني الذي تهدف الدكتورة لتحقيقه، هو إلغاء تعدد الزوجات وإدخال قوانين الطلاق الأوروبية في مصر) [تطور النهضة النسائية في مصر، درية شفيق، ص(29)].
لم يتوقف طموح( درية) فعند تشكيل اللجنة التأسسية عام1954 لوضع دستور جديد للبلاد, احتجت لأن اللجنة لم تضم بينها امرأة واحدة فأضربت عن الطعام هي وبعض زميلاتها في نقابة الصحفيين لمدة8 أيام ولم توقف الإضراب الا بعد أن ذهب اليها محافظ القاهرة حاملا اليها رسالة شفوية من الرئيس محمد نجيب يعدها بأن الدستور الجديد”سيكفل للمرأة حقها السياسي”، وهو ماتحقق بمنح المرأة المصرية حق التصويت والترشح في الانتخابات العامة لأول مرة في تاريخ مصر الحديث .…
في فبراير 1957 بدأت الإضراب عن الطعام في السفارة الهندية بالقاهرة ، احتجاجا علي تصفية عبد الناصر للتنظيمات الاهلية، وأعلنت لأجهزة الإعلام الدولية إحتجاجها على ( دكتاتورية جمال عبد الناصر) ، وطالبت بإستقالته. وأطلقت عليها (إذاعة مونت كارلو) لقب (الرجل الوحيد في مصر!) ووقف إلى جانبها الرئيس الهندي “نهرو” ، وظل على إتصال بجمال عبد الناصر والسفارة الهندية. الزعيم البانديت جواهر لال نهرو ، رئيس الهند إتصل بجمال عبد الناصر في 6 فبراير 1957 يطلب عدم السماح بالتعرض للدكتورة درية شفيق إذا ما رغبت في الخروج من السفارة الهندية بالقاهرة. وأبلغ “نهرو” سفيره في القاهرة أنه يعتبر الدكتورة “درية شفيق” ضيفة على السفارة وإذا ما رغبت في الإنتقال إلى المستشفى أو إلى أي مكان آخر في سيارة تابعة لسفارة الهند وفي رعاية السفير،
وإستمرت في الإضراب لمدة 11 يوما. وفي 17 فبراير حملوها إلى بيتها وتحت ضغط الأسرة أنهت إضرابها. وقيدوا خطواتها وإختفت درية من الذاكرة العامة حتى مأساة موتها في 20 سبتمبر عام 1975م.
و يحكي نهرو القصة قائلا : في عصر يوم الأربعاء 6 فبراير عام 1957 دخلت “الدكتورة درية شفيق” السفارة الهندية على بعد خطوات من مسكنها بالزمالك .. وأرسلت بيانا ل”جمال عبد الناصر” جاء فيه… (نظرا للظروف العصيبة التي تمر بها مصر قررت بحزم أن أضرب عن الطعام حتى الموت .. وأنا كمصرية وكعربية أطالب السطات الدولية بإجبار القوات الإسرائيلية على الإنسحاب فورا من الأراضي المصرية .. وأطالب السطات المصرية بإعادة الحرية الكاملة لمصريين رجالا ونساءا وبوضع حد للحكم الديكتاتوري الذي يدفع بلادنا إلى الإفلاس والفوضى ، وإخترت السفارة الهندية لأن الهند بلد محايد ولن أتهم بأنني فضلت معسكرا ما). وإستشاط “جمال عبد الناصر” غضبا لأن الشرطة المصرية لا تستطيع أن تدخل السفارة الهندية للقبض على “درية”. وقد أفردت الصحافة الأجنبية مساحات واسعة فإضراب “درية” ومطالبتها بإنهاء الدكتاتورية في مصر وخرجت “لندن تايمز” بعنوان (المدافعة المصرية عن حقوق المرأة تضرب عن الطعام في السفارة الهندية). أما الصحيفة الألمانية (دي فيلت) خرجت بعنوان (إمرأة من وادي النيل ترفع راية المقاومة ضد عبد الناصر).
و قوبل موقفها الجرئ بقسوة الإعتقالات الواسعة النطاق وأشكال التعذيب الذى تعرض لها معارضى النظام، فحددت إقامتها فى منزلها ونفيت من الحياة العامة، ومنع اسمها من الظهور فى الصحف والمجلات، وندد بها زملائها وزميلاتها واتهمت بالتآمر ضد الثورة والتحالف مع قوى الامبريالية. اختفت درية شفيق فعلا من الحياة العامة، وتركت أشعارا ومذكراتها ، و بقيت سجينة فيها طيلة 18 عاماً، لا تزور أحداً ولا أحد يزورها، وقد انفصلت عن زوجها حفاظاً عليه وعلى بناتها. كل ذلك كان بسبب مخالفتها لعبد الناصر حين انتقدت النظام وإيديولوجيته. وقد أغلقت السلطات مجلاتها الثلاث: بنت النيل، والمرأة الجديدة، والكتكوت و هي مجلة للأطفال, و قد قامت درية في آخر حياتها بترجمة القرآن الكريم إلى اللغتين الإنجليزية و الفرنسية. و ألفت كتاباً بالفرنسية بعنوان: إنني في الجحيم. وفيه تقارن بين جحيم دانتي في (الكوميديا الإلهية) و بين وجحيم حياتها
توفيت درية شفيق في العام 1975 حين سقطت من شرفة منزلها في الزمالك بالقاهرة.