كنت لا أزال فى سن المراهقة، حين قرأت مقالا لكاتب شهير، يقول فيه إن ما يعرف بالحروف النورانية، أى الحروف التى تأتى فى بدايات بعض السور مثل «ألم» و«كهيعص»، لو أننا جمّعناها، ورتبناها حسب التكرار (تصاعديا أو تنازليا، لا أذكر الآن)، فإنها سوف تشكل العبارة المهيبة التالية «نص حكيم قاطع له سر».
بهرتنى تلك «المعلومة»، وبعدها بأيام حكيتها لأحد الأصدقاء، لكن لحسن الحظ كان حماس صديقى إيجابيا، فنهض وتناول المصحف، أحضرنا الأوراق وأمسكنا بالأقلام، وأخذنا لساعات نفرز الحروف ونحسب ونجمع ونطرح.
سأكتفى بالقول بأن «نظرية» الكاتب كانت هراءً كاملًا، لكنى تعلمت -من تصرف صديقى- درسا هاما أوضح من أن أشرحه، لكن لماذا فعل الكاتب ذلك؟
لم أكن وقتها قد سمعت بعد عن دراسات «الإعجاز العلمى»، وهى عبارة عن أعمال ومعاهد وأبحاث تتكلف وتتمول بملايين الدولارات لعشرات السنوات دون أن تقدم للبشرية قرص أسبرين، ولولا إيجابية صديقى فى اختبار فرضية الكاتب، ربما كنت وقعت فى ما بعد ضحية تصديق بزنس «الإعجاز العلمى» كملايين غيرى، وذلك لأن ذلك المقال القديم عرّضنى لعملية أشد خطورة، اسمها «تزييف الوعى».
ما «تزييف الوعى»؟
تصوّر أننى طلبتُ منك ومن بقية القرّاء، أن توقعوا على عريضة تطالب بإلغاء خدمة تعليقات القراء على الموقع.
هذا طلب غريب أليس كذلك؟ كيف أطلب منك أن تتبنى بنفسك إلغاء الخدمة المعبرة عنك؟
كى أحقق ذلك، كى أحرمك من حقك، لا بد أن أقنعك بأن هذا ليس غرضى الشخصى، ولا يمثل لى أى مصلحة، لا يهدف -مثلا- إلى تجنيبى النقد والمراجعة والتصحيح والهجوم، إنما يحقق هدفا أخلاقيا أو دينيا أو يحقق نتائج أفضل، كأن يمنع الجدل والشقاق والقذف والسب.. إلخ، لكنك لا يمكن أن تستسلم بسهولة، إلا لو كنت قد خضعت طويلا لعملية تزييف وعيك.
تذكر ذلك، حين ترى نساء، يصوِّتن لأحزاب أو تيارات لا تُخفى احتقارها للنساء، تيارات تخفى المرأة وتطمس صورتها حرفيا وترفض استقلاليتها وتتبنى تقييد حقوقها، وعلى الرغم من أنها تستفيد من تصويت المرأة فى الصناديق العامة، فإنها تحرمها من التصويت الداخلى واتخاذ القرار التنظيمى، وتحرمها من المواقع القيادية بما فيها حتى منصب «مسؤول المرأة»، وتحرمها أحيانا مجرد الصعود على المنصة فى مؤتمرات مخصصة لقضاياها.
كيف تنتخب امرأة من يحتقرها، من يراها ناقصة ولا تصلح؟
هى تفعل ذلك لأنهم قد زيّفوا وعيها طويلا حتى آمنت أنها خلقت كى تُقاد لا من رجل معين بل من أى رجل، إنها ناقصة وتحلّ فى الدرجة الثانية لمجرد أنها «هىّ» أو «هنّ»، لا من أجل ما فعلت أو ما يمكن أن تفعل، لقد آمنت بذلك وهى تردد بفخر «أنا امرأة قبل أن أكون طبيبة أو محامية»، تقول شرًّا وهى تحسبه خيرا.
وتذكَّر ذلك حين ترى من يدافع بقوة عن تعدد الزوجات، فهو فى غالب الظن يعتقد بما سمعه كثيرا من أن عدد النساء فى العالم أضعاف عدد الذكور، ولم يفكر أن يقرأ بنفسه إحصائيات التوزيع السكانى، وتذكّر ذلك حين تسمع من يصرخ منذ ثلاثين عاما «الحجاب يحميك من الذئاب»، فهو لم يطلع على استطلاع واحد يفضح نسبة تعرض المحجبات للتحرش، ولو اطّلع لن يصدق، وإذا صدّق سوف يبرر.
لكن، كيف تعرف صاحب الوعى الزائف؟
إنه ذلك الذى «يجرِّب المتجرَّب».
من أمثلة ذلك، اقتراح البعض بتخصيص مواصلات مخصصة للسيدات، متبعا نظرية «شيل ده من ده يرتاح ده عن ده»، ويتلوها بأشهر أخطاء المنطق «الشخصنة»: «المعترضون على الاقتراح عندهم عربيات ومش حاسين ببهدلة المواصلات».
أما أنت، فقد تنظر إلى تجربة سابقة فى مترو الأنفاق، وتتساءل: هل كانت نسبة التحرش والمضايقات فى مترو الأنفاق أعلى عند افتتاحه فى الثمانينيات، ثم قلّت بعد تخصيص أول عربة السيدات «أوائل التسعينيات»؟ أم العكس؟ وهل عولجت المشكلة بتخصيص عربة إضافية للسيدات؟ أم أنها أصبحت مشكلتين: فى عربة السيدات يتطفل الرجال، وفى العربات الأخرى يلومون المرأة «ما تركبى عربية الحريم»، وهل سبب الزحام وجود أو عدم وجود عربة سيدات، أم وقت التقاطر ونسبة الأعطال؟
قد تعرف عندها أنه لا توجد طرق مختصرة لعلاج المشكلات، وإن تلك الاقتراحات «البريئة» تصعِّب مهمة مناهضى التحرش، لأن الفصل بين الجنسين ينقل التحرش من كونه جريمة إلى مجرد نتيجة «طبيعية» لاختلاط النوعين. (كنتى راكبة عربية سيدات ولّا عربية مختلطة؟) هذا أول سؤال سيوجه لأى ضحية تحرش، وهو سؤال شاذ لا يجعله طبيعيا إلا الوعى الزائف.
إذن، ما الحل؟ ليس سوى ما فعله صديقى القديم، أن تتشكك، هنا وفى كل مكان، فى هذا المقال قبل غيره، أنت مكون من وعى، ولا وعى، لا يمكنك التدخل فى الأخير، فحاول أن تحرر الأول.