

ببالغ الحزن والأسى، تنعي مؤسسة المرأة الجديدة ضحايا حادث التصادم الأليم الذي وقع على الطريق الإقليمي في نطاق مركز أشمون بمحافظة المنوفية، والذي أسفر عن وفاة 19 شخص بينهم 18 فتاة وإصابة 3 آخرين.
مرة أخرى، تنكشف هشاشة منظومة الحماية الاجتماعية في مصر، وتسقط من جديد ضحاياها الأضعف: فتيات في عمر الزهور، لم تُتح لهن فرص التعليم الكافي، ولم توفر لهن الدولة تأمينًا، أو مواصلات آمنة، أو حتى حدًا أدنى من شروط العمل اللائق.
في صباح الجمعة 27 يونيو 2025، فقدت قرية كفر السنابسة التابعة لمركز منوف بمحافظة المنوفية 18 فتاةً، حين اصطدمت سيارة ميكروباص تقلّهن بشاحنة نقل ثقيل (تريلا) على الطريق الإقليمي. وتتراوح أعمار الضحايا بين 14 و22 عامًا. أغلبهن لم يُكملن تعليمهن، وبعضهن معيلات لأسر كاملة، يعملن مقابل أجور يومية زهيدة لا تتجاوز 130 جنيهًا، بلا تأمين أو نقل آمن، في ظل غيابٍ شبه كامل لرقابة الدولة على ظروف العمل وتشغيل الأطفال .
إن ما وقع لا يمكن توصيفه كـ”حادث سير” فحسب، بل هو مشهد متكرر لعنف بنيوي منظم، تُنتج فيه السياسات الاقتصادية والاجتماعية موتًا مجانًا للنساء، لا سيما الشابات والفقيرات، اللاتي يقعن في قلب معادلة الاستغلال وغياب العدالة.
تمثل هذه الفاجعة انعكاسًا مباشرًا لتقاطعٍ معقّد بين عدة أنماط من العنف البنيوي والتمييز الهيكلي ضد النساء، وعلى رأسها الفقر البنيوي الذي يدفع بفتيات في عمر الطفولة إلى سوق العمل، تحت وطأة غياب شبكات الحماية الاجتماعية. كما يُفاقم ضعف الإنفاق العام على التعليم من أزمة التسرب الدراسي، لا سيما بين الفتيات في الريف، الأمر الذي يُعيد إنتاج الحلقة المفرغة للفقر عبر الأجيال. وفي ظل غياب سياسات تشغيل عادلة تراعي النوع الاجتماعي، وتزايد الاعتماد على قطاع النقل غير الرسمي غير المؤمَّن، تجد العاملات أنفسهن عرضة لمخاطر جسيمة، دون أدنى ضمانات للسلامة أو الكرامة. إن حادث كفر السنابسة لا يُعبّر عن خلل فردي أو إهمال عارض، بل يكشف عن منظومة إنتاجية كاملة تتخلى عن أبسط معايير الحماية، وعن دولة انسحبت فعليًا من مسؤولياتها تجاه النساء الفقيرات.
وجود فتيات لم يتجاوزن الرابعة عشرة بين ضحايا حادث كفر السنابسة يعيد تسليط الضوء على ظاهرة عمالة الأطفال، التي تنتشر بشكل خاص في المناطق الريفية والصناعية دون رقابة فعّالة أو تدخل جاد من مؤسسات الدولة. ويُعزى تفاقم هذه الظاهرة إلى اتساع رقعة الفقر، وتراجع الدعم الاجتماعي، وغياب سياسات فعّالة لحماية الطفولة، مما يدفع الأطفال – من الإناث والذكور – إلى دخول سوق العمل مبكرًا، في أعمال شاقة وبيئات خطرة، دون عقود أو تأمينات، وبالمخالفة الصريحة للقوانين الوطنية والاتفاقيات الدولية.
وفي هذا السياق، تتحمل وزارة العمل مسؤولية مباشرة عن تفشي عمالة الأطفال، نتيجة صمتها عن الانتهاكات المستمرة في مواقع العمل، وتراخيها في فرض معايير السلامة المهنية وشروط التشغيل في المصانع والمزارع . كما يبرز فشل مكاتب العمل في أداء دورها الرقابي، سواء في رصد تشغيل الأطفال، أو في إنفاذ القوانين التي تحظر هذا التشغيل، ما يسمح باستمرار هذه الممارسات غير القانونية دون مساءلة حقيقية
ونحمل المسؤولية الأخلاقية والسياسية والقانونية عن هذه الحادثة على عاتق الدولة، ومؤسساتها، وشركات القطاع الخاص المستفيدة من عمل الفتيات دون التزام حقيقي بتوفير وسيلة نقل آمنة أو تأمينات اجتماعية.
كما نُحمّل الدولة، بكل أجهزتها، المسؤولية الكاملة عن غياب شبكات الحماية، وانسحابها من أدوارها الاجتماعية، وإطلاق يد الاستغلال بلا رقيب، سواء في سياسات الأجور، أو ظروف العمل، أو الرقابة على عمالة الأطفال وتفعيل القوانين وحماية العمالة الغير منتظمة هذه الكارثة لا يجب أن تمر كغيرها، ولا يجوز اختزالها في حادث مروري أو منشور عزاء. نحن أمام مأساة تكشف عن خلل في تصور التنمية، وفي قيمة النساء في سوق العمل، وفي طريقة التعامل مع الفقر كقضية تهدد السلم المجتمعي، هؤلاء الفتيات لم يمتْن في حادث عرضي، بل سقطن ضحايا نسق اقتصادي لا يرحم، ومجتمع يُلقي بثقل الإعالة على أكتاف طفلات، ويستسلم لغياب دولة لا تحمي، ولا تراعي، ولا تحاسب. ..