محمود عبد الحي
قضية المرأة، من جميع وجوهها، قضية إنسانية واجتماعية ومجتمعية عامة من الدرجة الأولى، من جهة، وقضية خاصة تتعلق باضطهاد المرأة وما تتعرض له من أشكال الظلم والاستغلال والقهر والعنف وما تعانيه من أنواع التمييز الجنسي والقانوني في سائر مجالات الحياة، من جهة أخرى. كونها قضية عامة يجعلها قضية الرجال والنساء على قدم المساواة، قضية المجتمع كله، أي قضية أنسنته وعقلنته وعلمنته ودمقرطته وتقدمه. فمن المحال أن يتحدث نصف المجتمع أو يتقدم دون نصفه الآخر.
على أنه لا يجوز النظر إلى هذا التقسيم من الزاوية الكمية الخالصة، أو من الزاوية الإحصائية الخالصة، بل من زاوية التكامل الضروري والوحدة الجدلية بين الجنسين؛ لتوكيد حقيقة أن عضوية المرأة في المجتمع والدولة لا تختلف بأي معنى من المعاني عن عضوية الرجل فيهما، وأن مساعي التنمية الاجتماعية يجب أن تتجه إلى تنمية الجنسين على قدم المساواة. والحديث عن حرية الفرد وحقوق الإنسان يجب أن يستبعد الإيحاء الذكوري لعبارتي الفرد والإنسان؛ الإيحاء الذي يجعل الذهن ينصرف إلى أن حرية الفرد تعني حرية الرجل، وحقوق الإنسان تعني حقوق الرجل، بحكم صيغة التذكير الظاهرة للكلمتين، وكذلك في كلمة المواطن وغيرها، فاللغة تحمل سمات المجتمع الذي أنتجها، ويعيد إنتاجها، وخصائصة الذهنية النفسية. وإن للكلمات سحرها ومكرها؛ إذ تختزن كل منها تاريخها الدلالي والقيمي وتفرضه على السامع والقارئ. لا يكفي أن نقول: إن المرأة هي نصف المجتمع، في حين هي مربيته ومعلمته. وكونها قضية خاصة يجعلها قضية النساء، في سعيهن إلى التحرر والمساواة، مقدمة لا بد منها للحرية التي ترقى بقضية المرأة إلى الصعيد العام. ولا فصل ميكانيكياً بين العام والخاص؛ فليس للأول من وجود فعلي إلا في الثاني، وليس للثاني من معنى أو من قيمة إلا في نطاق الأول. ذلك أن كل مكسب تحرزه المرأة في سعيها إلى التحرر إنما تهديه للمجتمع؛ مما يعني أن قضية المرأة لن تحسم في نهاية الأمر إلا على صعيد المجتمع ونظامه العام وشكل وجوده القانوني والسياسي. وهذه العلاقة الجدلية بين مستويي القضية العام والخاص تتأسس وتتجلى في العلاقة النوعية بين المرأة والرجل، أعني العلاقة الجنسية الأكثر حميمية التي يعيد بها الجنس إنتاج وجوده الاجتماعي، ولذلك سميت علاقة جنسية؛ وهذا ما يرقى بها عن أي شكل من أشكال الابتذال أو الإسفاف.
وقضية المرأة قضية تاريخية تضرب جذورها عميقاً في حياة الجماعة البشرية إلى الزمن الذي ظهرت فيه الملكية الخاصة، على الأرجح، وظهر معها الاستلاب واستغلال الإنسان للإنسان. وما يجعلنا نميل إلى ترجيح ذلك أن المرأة لا تزال تعامل على أنها ملكية خاصة للرجل، شأنها شأن ما كان يملكه الرجل من عبيد وإماء. بل نكاد نقول إنها الأثر المتبقي من النظام العبودي القديم، والمتخفي في ثنايا النظام العبودي الجديد الذي رفع الملكية الخاصة إلى مصاف المقدسات، بل جعلها المقدس الوحيد في الواقع الفعلي، وفصلها عن المجتمع، ثم عن العائلة.
ويتجلى ذلك الجذر العبودي في الثقافة السائدة على الصعيد العالمي، ولا سيما في المجتمعات المتأخرة كمجتمعاتنا، حيث ما تزال وضعية المرأة في هذه المجتمعات أقرب إلى ما كانت عليه في الماضي البعيد. ومن الصعب أن يجد المرء تفسيراً آخر لاستمرار دونية المرأة وتبعيتها للرجل غير نتوج العلاقات والقيم الاجتماعية عن شكل الملكية، بل عن نمط الإنتاج الاجتماعي الذي يتحدد بها، أعني إنتاج الثروات المادية والروحية على السواء؛ لأن كل إنتاج هو تملك، بالمعنى ذاته لقولنا: كل إنتاج هو استهلاك. ومن ثم فإن الإنتاج هو شكل تملك الإنسان للعالم مادياً وروحياً. ويندرج في هذا السياق إنتاج البشر لوجودهم الاجتماعي وعلاقاتهم الاجتماعية، وفي مركزها العلاقات الجنسية، ولنسمها العلاقات النوعية، لاستبعاد الإيحاء الشائع والمبتذل غالباً لـ “الجنس”. أليست المرأة المالكة وسيلة إنتاج عيشها، أو وسيلة إنتاج بوجه عام أكثر تحرراً، ولا أقول حرية، من غير المالكة؟ والتحرر هو السبيل إلى الحرية.
في أساس جميع العلاقات الاجتماعية والإنسانية تقبع العلاقة النوعية بين الجنسين، وهذه العلاقة هي الحب بكل ما تنطوي عليه الكلمة من معان. فقد وضع أريك فروم مقولة الحب تحت مقولة التملك، ومقولة التملك تحت مقولة الاستهلاك، لتغدو مقولة الحب تحت مقولة الاستهلاك؛ فكانت النتائج التي وصل إليها أقرب إلى تفسير العلاقات الاجتماعية القائمة في المجتمعات الغربية وتسويغها. ويبدو لي أنه انطلق من مقدمة خاطئة جعلته يعطل العلاقة الجدلية بين الإنتاج والاستهلاك . وأظن أن الوضع الصحيح للمسالة هو أن نضع مقولة الحب تحت مقولة الإنتاج التي تعرِّف مقولة التملك ومقولة الاستهلاك؛ وإلا فسوف نصل إلى نتيجة مؤداها أن العلاقات الاجتماعية القائمة اليوم تتسق ومنطق الضرورة العقلية. والأمر ليس كذلك، فكل ما هو واقعي عقلاني، ولكن كل ما هو عقلاني واقعي أيضاً، بحسب الفيلسوف الألماني الكبير هيغل. العلاقات الاجتماعية القائمة عقلانية بالطبع، لأنها ممكنات الواقع التي تحققت بالفعل؛ ولكنها تنحو أكثر فأكثر نحو اللاعقلانية المباطنة لكل ما هو عقلاني. وذلك بحكم نمو المعرفة والعمل، بحكم تقدم الوعي ونمو الروح الإنساني، أي بحكم فاعلية العقل نفسه، وهي فاعلية نفي ونفي النفي لا تفتر ولا تتوقف إلا حين يعيش الناس الحاضر بدلالة الماضي، أو حين يحجر الماضي على الحاضر ويمسك الأموات بتلابيب الأحياء فيحددون وعيهم وأنماط سلوكهم. إن ما كان عقلانياً ذات يوم يكف عن كونه كذلك مع تقدم الوعي بصفته الوجود مدركاً، أي مع انبساط الروح الإنساني في العالم وفي التاريخ