منذ عام 2016، شرعت الحكومة المصرية في تنفيذ مشروعها لميكنة منظومة العدالة، ذلك في إطار توجه عام نحو التحول الرقمي. ورغم ما يُروّج لها بوصفها وسيلة من شأنها تيسير سبل الوصول إلى العدالة وتسريع وتيرة التقاضي ضمن أيضًا “استراتيجية العدالة الناجزة” التي أعلنت عنها وزارة العدل، بيد أن السنوات التالية شهدت زيادات مستمرة في الرسوم القضائية، والتي أخذت منحى تصاعديًا غير مسبوق فوصلت في بعض الحالات إلى أكثر من عشر أضعاف الرسوم الأصلية.
صدرت هذه القرارات بالزيادات بمعزل عن مراجعة تشريعية شفافة، وفي ظل غياب لدراسات تقييم الأثر الاجتماعي، متجاوزة حق المجتمع في الوصول إلى المعلومة والنقاش حولها. وبالتبعية لم تواكب هذه الزيادات أي تطوير ملموس في ضمانات الوصول للعدالة، بل أصبحت أداة إقصاء فعلية للفئات المهمشة، وعلى رأسها النساء. ما يجعلها محط تساؤل من حيث مدى دستوريتها، وانسجامها مع التزامات مصر الدولية بضمان الوصول الفعلي والمتكافئ لمنافذ العدالة.
بجانب الزيادات التي صدرت من خلال منفذ التعديل التشريعي على قانون الرسوم القضائية والتوثيق، صدر عدد من القرارات الإدارية من داخل المحاكم، وبالنظر إلى ملخص نماذج لهذه الزيادات، فإن تكلفة تصوير ورقة واحدة مثلًا ارتفعت من جنيه واحد إلى أكثر من خمسة جنيهات، ورسوم استخراج شهادة بعدم حصول استئناف قفزت من 25 إلى 60.5 جنيهًا. كذلك شهدت رسومًا زيادات وصلت إلى 300% و900% على التوالي وتضمنت رسوم أخرى زيادات وصلت إلى 500%، من ضمنها رسوم الدعوى عند الرفع، ورسوم الحوافظ، ورسوم أتعاب المحاماة، وغيرها، وهذه الرسوم وغيرها هي تُسلّم للخزينة وقابلة للزيادة اليومية.
وبالنظر إلى نماذج من الرسوم القضائية على تماس مع تكلفة لجوء النساء إلى مرفق التقاضي، رصدنا بأنه منذ عام 2019 وصولًا للعام الجاري، فإنه كانت هناك إجراءات معفاة من الرسوم سابقًا وأصبح العكس الآن، فكانت الصيغة التنفيذية مجانًا، لكن حاليًا فى قضايا النفقات والأسرة بمقابل حوالى 57 جنيهًا، كذلك استخراج نموذج لتحري دخل الزوج في قضايا النفقات أصبح بتصريح من المحكمة برسوم حوالى 57 جنيهًا، بالإضافة إلى الاستعلام عن القضايا الذي صارت تكلفته بواقع 57 جنيه.بجانب أنه، أصبح إجراء استخراج محضر جلسة لعمل تصريح تحري دخل، يقدره محضر الجلسة بحوالي 57 جنيه، بعدما كان التصريح عن تحرى الدخل مجانيًا. وذلك في مقابل نماذج من إجراءات ارتفعت رسومها، في دعاوى النفقات مثلًا، منذ عام 2016 حتى 2018 كانت معفاة من الرسوم القضائية الأساسية فيما عدا رسوم الماسح الضوئى، وضريبة المحاماة، ودمغة المحاماة، والتي كانت تقدر بحوالي 40 إلى 50 جنيه، والآن تصل إلى حوالي 136 جنيه، وفي دعاوى أخرى، مثل التطليق أو الخلع، فإن الرسوم قد تصل إلى حوالى 300 جنيه، هذا بخلاف أمانة الحكمين والتى ارتفعت إلى 350 جنيه، بعدما كانت تتراوح من 150 إلى 200 جنيه.
أما فيما تلى ذلك من أعوام فإنه تم استحداث ما يسمى بنماذج مؤمنة وخدمات ميكنة فأصبح استعلام رسوم بعدما كان مجانيًا، فأصبح برسم 57 جنيه للمرة الواحدة، وكذلك رسوم تصوير المستندات تترواح ما بين 75 إلى 150 جنيه، كذلك الحصول على تحرى دخل كان مجانيًا ثم أصبح يدفع له رسم تصريح حوالى 57 جنيه أيضًا، بخلاف الحصول على أحكام أخرى للاستشهاد بها، أو الحصول على شهادة من واقع الجدول. وبخلاف الإعلانات فإن ذلك يجعل الدعوى ليست مجانية الرسوم كما تنص المادة 3 من قانون رقم 1 لسنة 2000، على إعفاء دعاوى النفقات والأجور والنفقات وما في حكمها من النفقات والرسوم. بالإضافة إلى ذلك، فإن مقابل الحصول على صور الأحكام، كان برسوم قليلة، فارتفعت من 5 أو 10 جنيه إلى حوالى 55 جنيه، وأحياناً تُحسب التكلفة بعدد الورق نفسه، وهو ما يكون عادة ورق مؤمن، فتترواح الورقة الواحدة ما بين 3 إلى 5 جنيه، وذلك في قضايا الأحوال الشخصية كنموذج.
بالإضافة إلى ذلك، فإنه تم استحداث خدمات بمقابل يضيف أعباءً اقتصادية أخرى، حيث تنوعت الرسوم غير المباشرة، ما بين رسوم وثائق أو ونماذج مؤمنة، ورسوم استعلام، ورسوم استخراج، وتم استحداث ما يسمى نموذج مؤمن أو مميكن، وليس الورق المعتاد سابقًا، مما جعل سعر الورقة يتراوح بين 3 إلى 5 جنيهات في قضايا النفقات. أما بالنسبة لقضايا العنف، فإنه لا يوجد رسومًا ثابتة للورق المميكن أو النماذج المؤمنة، فتتراوح سعر الورقة بين 20 إلى 25 جنيه باختلاف قرارات رؤساء المحاكم المختلفة. تم استحداث إجراءات جديدة، مثل رسم تطوير مرفق المحكمة، والذى يقدر أحيانًا بحوالى 75 جنيه بخلاف الرسوم الأخرى على عريضة الدعوى.
في المقابل، ارتفعت رسوم دعاوى الاستئناف في الأسرة من حوالي 200 جنيه إلى 400 ثم 800 جنيه، كما أن رسوم دعاوى الاستئناف أصبحت تُحسب بعدد ورق العريضة ذاتها، وليس بإجمالى أو نوع القضية. وتتنوع الرسوم إلى رسوم نسبية، وثابتة، وتطوير ميكنة، وخدمات، ورسم إضافي، وضريبة، وضريبة مضافة، ورسم أتعاب محاماة، وحاسب.
وبالنسبة إلى قضايا العنف، مثل الضرب، فإن الجنحة المباشرة ارتفعت من حوالي 136 جنيه إلى 250 ثم 300 جنيه. وتتجلى هذه الزيادة في قضايا العنف التي تنظرها المحكمة الاقتصادية، مثل التشهير والابتزاز الالكتروني وغيرها، حيث ترتفع بدرجة كبيرة رسوم تصوير المحاضر، ورسوم الاطلاع، ومراجعة الحوافظ، والأوراق المؤمنة، حيث تتراوح أسعار الورقة المؤمنة الواحدة من 20 إلى 30 جنيه للورقة الواحدة، وتختلف باختلاف المحاكم.
يشير واقع الزيادات المتوالية إلى تعارض مع حق يكفله الدستور المصري في نص المادة 97 بأن “التقاضي حق مصون ومكفول للكافة”، حيث تعتبر هذه القرارات بفرض رسومًا تعجيزية، دون أن يُقابل ذلك سياسات حماية أو إعفاء حقيقية، هو مساس بحق المواطن.ة في اللجوء إلى منافذ العدالة، وبمثابة تكريس للتمييز الهيكلي النوعي والطبقي. كما تخالف هذه الزيادات جوهر اتفاقيات دولية مثل اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة (سيداو)، التي تؤكد على ضرورة إزالة العوائق الاقتصادية أمام النساء للوصول إلى العدالة. ومن الملفت للانتباه، أنه وفقًا لبيانات وزارة العدل المصرية فإن أعداد القضايا منذ عام 2019 قد تراجعت، تزامنًا مع الزيادات المتكررة في الرسوم القضائية، إلى ما يقارب 11 مليون قضية خلال عامي 2021 و2022.
والجدير بالذكر، أنه سبق وأصدرت محاكم القضاء الإداري قرارات بوقف تنفيذ هذه القرارات، ومن ضمنها دعوى الطعن على قرار رئيس محكمة استئناف الإسماعيلية في سنة 2022، وقضت المحكمة بعدم قبول 26 دعوى قضائية أخرى طعنوا المحامون فيها، خلال السنوات الأخيرة وأيضًا في ديسمبر 2023، على رسوم أقرتها محكمة المنصورة مقابل خدمات الميكنة. وبجانب تحركات المحامين بالطعون على القرارات الإدارية بزيادة الرسوم، فإن هذه القرارات تشهد اعتراضات واسعة، قدمت النائبة سناء السعيد بطلب إحاطة بشأن الزيادات غير القانونية في رسوم الخدمات القضائية مشيرة إلى أن بعض الرسوم فُرضت دون سند قانوني وذلك بالمخالفة للمادة 38 من الدستور المصري والمعني بتنظيم مبادئ فرض الضرائب والرسوم حيث لا يتم إقرارها إلا بقانون، وأهمية وجوب العدالة في توزيع الأعباء الضريبية مما يراعي القدرة المالية للأفراد. كذلك، برزت مؤخرًا مواقف حازمة من جانب نقابة المحامين المصرية وعدد من النقابات الفرعية، والتي أعربت عن رفضها القاطع للزيادات الأخيرة في الرسوم. وأعلنت النقابة نيتها في اتخاذ إجراءات تصعيدية، معتبرة أن فرض رسوم بهذه الوتيرة يمثل إخلالًا بمبادئ العدالة.
في ضوء هذه المعطيات، لا يمكن قراءة هذه الزيادات بمعزل عن البنية غير المتكافئة اقتصاديًا واجتماعيًا التي تُميّز علاقة النساء بمنظومة العدالة في مصر. فغالبية النساء اللاتي يطرقن أبواب المحاكم هن من الفئات الهشة اجتماعيًا واقتصاديًا، سواء كمعيلات أو ضحايا عنف أو مطالبات بحقوقهن أو حقوق أطفالهن، وبالتالي تأتي هذه الزيادات في وقت تعاني فيه النساء من عراقيل اجتماعية وقانونية في الإبلاغ عن العنف. مما يعني، أن العدالة صارت مشروطة بالقدرة الاقتصادية، حيث أن الرسوم القضائية المرتفعة تمثل حاجزًا عائقًا إضافيًا يحول دون لجوء النساء إلى منافذ العدالة.
ختامًا، فإننا نثمن كافة التحركات القانونية ونتضامن مع كافة المواقف الجماعية والاحتجاجية من التنظيمات النقابية التي تؤكد على الدور المتوقع منها، والذي يعد تطورًا إيجابيًا في مشهد يتسم عادة بالصمت، ويستحق الإشادة والدعم من التنظيمات النسوية والحقوقية ومنظمات المجتمع المدني. فالسعي نحو تحقيق العدالة يتطلب تضامنًا واسعًا من أجل بيئة قانونية عادلة ومنصفة وليست إقصائية للفئات الأكثر فقرًا وتهميشًا.
ــــــــــــــــــــــــ