إعداد: حنين السيد – رهادة عبدوش
تصميم: محمد الحاج أحمد
في التاسع عشر من يناير/ كانون الثاني 2025، حملت المشاركات والمشاركون صور ليليان وساروا بها في مشهدٍ يعكس حزناً وغضباً شديدين، مع مطالبات بتحقيق العدالة في قضيتها.
تعرضت ليليان لاثنتي عشرة طعنة قاتلة على يد والدها، عانت من عنف جسدي مبرح، وتعرضت والدتها للطعن أثناء محاولتها إنقاذ ابنتها، ثم نُقلت إلى المستشفى حيث وُضعت تحت العناية المركزة.
لم تكن قصة ليليان مجرد حادثة عائلية، وإنما جريمة كاملة الأركان، تضاف إلى قائمة النساء السوريات اللواتي دفعن حياتهن ثمناً لوصاية ذكورية قاسية، وعقلية مجتمعية تُجيز قتل النساء تحت مسميات مثل “الشرف” والتقاليد”، في ظل غياب قوانين رادعة ومجتمع يمنح غطاءً للفاعل، ويُظهر تواطؤاً ضمنياً مع انتهاك حقوق النساء الأساسية، بما فيها الحق في الحياة.
ليليان خريجة جامعية أنهت دراستها في المعهد الصحي اختصاص صيدلة العام الماضي، وتعمل في صيدلية بقريتها (لوبين). تتمتع بسمعة طيبة بين أهل قريتها ومعارفها، أكد العديد ممن عرفوها في لقاءات ومشاركات عبر وسائل التواصل الاجتماعي على ذلك، وصديقاتها اللواتي التقيناهن في مسيرة الشموع، بكى أهلها وأصدقائها فقدانها، وأقاموا لها مأتماً يعكس حجم الألم والخسارة التي تركتها هذه الجريمة في نفوس الجميع.
وأوضح المحامي أيمن شبيب، الذي يتابع قضية ليليان أبو سرحان في السويداء، أن المجتمع المحلي يُظهر استنكاراً كبيراً لهذه الجريمة، مع مطالبات واسعة بمحاسبة القاتل وإنزال أشد العقوبات بحقه. وأشار إلى أن إجراء كشف العذرية في مثل هذه القضايا يُعتبر جزءاً من الإجراءات القضائية لتأكيد أن الجريمة هي قتل عمد بين الأصول والفروع، مما يستوجب تطبيق العقوبات وفقاً للقانون بناءً على النتيجة. حيث يخفف الحكم في حال فقدان العذرية.
وأضاف شبيب: “العملية القضائية مستمرة، لكن تعطل الضابطة العدلية في الوقت الراهن بعد سقوط نظام الأسد يؤخر سير التحقيقات، مما يزيد من معاناة عائلة الضحية ويؤخر تحقيق العدالة المنشودة”.
وثقت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في نوفمبر/تشرين الثاني 2022، 185 جريمة قتل بحق نساء وفتيات بذريعة “الدفاع عن الشرف” في سوريا منذ عام 2019، وعشرين حالة وفاة نتيجة العنف المنزلي، فضلاً عن 561 حادثة عنف منزلي أخرى تضمنت الضرب والإيذاء الجسدي خلال نفس الفترة.
صرحت “منظمة سارا لمناهضة العنف ضد المرأة، في حديثها لنا أنه تم رصد 26 حالة قتل وانتحار لنساء، وأربع قضايا تهديد بالقتل، إضافة إلى أربع حالات حرق، جميعها من شمال شرق سوريا، خلال عام 2024، مما يشير إلى عمق الأزمة المستترة خلف العادات والتقاليد.
تختلف هذه الإحصاءات عن تلك المتعلقة بالنساء اللواتي فقدن حياتهن نتيجة النزاع المسلح في سوريا، والتي قُدّرت بحوالي 29 ألف امرأة منذ عام 2011.
وفي النصف الأول من عام 2023، وقعت 25 حادثة قتل بحق نساء في شمال شرق سوريا، منها جرائم قتل بذريعة الشرف، بحسب أرقام صادرة عن منسقية المرأة في الإدارة الذاتية (تجمع للنساء العاملات في الإدارة الذاتية ومنظماتها ومؤسساتها النسوية). في تصريح سابق لـ معاون المدير العام ل”الهيئة العامة للطب الشرعي” التابع للنظام السوري قبل سقوطه، ياسر قاسم، يقول “إن معدلات جرائم القتل ارتفعت خلال عام 2023 مقارنةً بعام 2022 بنسبة 0.71%، وتنوعت أساليب القتل بين الطلق الناري، الخنق، الذبح، الطعن، الأذية الانفجارية”.
تنبع جرائم “الشرف” من عادات وتقاليد متجذرة تُقدّس “السمعة” و”العائلة” على حساب حياة النساء وكرامتهن. في المجتمعات التي تُعتبر المرأة فيها رمزاً لشرف العائلة، يصبح أي سلوك يُعتقد أنه يهدد هذا الشرف مبرراً لارتكاب جرائم قتل بحق النساء. هذه الأعراف تُحوّل المنزل، المفترض أن يكون ملاذاً آمناً، إلى ساحة خطر، حيث يتم القتل كوسيلة لإعادة “الاعتبار” للعائلة.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك كان في قرية حوش الباعر بريف الحسكة، عندما وثّقت كاميرا هاتف جريمة مروعة هزت الرأي العام. في يونيو/حزيران 2021، حيث قُتلت فتاة على يد والدها وأخيها، بمشاركة مجموعة من الشبان، بعد أن قيدوها في غرفة مهجورة وأطلقوا عليها النار في رأسها، مدّعين أن ذلك “غسل عارهم”، وتعلو أصواتهم خلال الفيديو وهم يقولون: “خلص، ماتت”، وكأنهم يعلنون الانتصار على العار المفترض.
وتؤكد المحامية سنابل محمد أن هذه الجرائم تحظى بقبول مجتمعي ضمني، حيث لا يُنظر إلى مرتكبيها كخطر حقيقي مثل السارقين أو القتلة العاديين، وهذا القبول يمتد إلى المؤسسات القضائية نفسها، حيث يتساهل القضاء مع هذه القضايا، مما يؤدي إلى طمس الأدلة والتلاعب بمجريات التحقيق.
وتوضح المحامية أحد الأمثلة من قضية تتابعها في محكمة طرطوس: “قُتلت سيدة على يد والدة زوجها وزوجها غربيّ طرطوس، ورغم الأدلة الواضحة، تم التلاعب بتقرير الطبيب الشرعي، حيث أفاد بعدم وجود رضوض تدل على الخنق. وعندما طلبنا شهادة طبيب آخر، أكد وقوع جريمة الخنق”.
تقول: “لا يزال القانون يتساهل مع قتلة النساء عبر ثغرات قانونية مثل “الدافع الشريف”، بينما يساهم الفساد القضائي في التلاعب بالأدلة وإفلات الجناة من العقاب. المجتمع لا يدين هذه الجرائم كما يجب، مما يعزز استمرارها. نطالب بقانون يحمي النساء من العنف الأسري، ومراكز دعم متخصصة، وخطوط ساخنة للتبليغ. لا يجب أن يُجرى فحص العذرية إلا بأمر قضائي، ويجب تشديد الرقابة على القضاء لضمان العدالة. لا يمكن أن يستمر التلاعب بالأحكام وفق الأعراف والرشاوى، فالعدالة يجب أن تكون مستقلة ومنصفة للجميع.
قمنا بإعداد استبيان شمل (80) مشاركة لاستطلاع آرائهن حول قضايا قتل النساء في سوريا، كشف الاستبيان عن رفض واسع لجرائم قتل النساء في سوريا، لكنه أظهر في الوقت ذاته دعماً غير مباشر لهذه الجرائم بفعل الأعراف والتقاليد التي تكرّس العنف وتمنح مرتكبيه شرعية ضمنية.
كما بيّنت النتائج ضعف الثقة في القوانين السورية، حيث يُنظر إليها على أنها غير كافية للحد من هذه الجرائم، خاصة في ظل التساهل القانوني مع الجرائم المرتبطة بذريعة “الشرف”.
وعلى مستوى الحلول، برز تشديد القوانين وتطبيقها بصرامة، إلى جانب توعية المجتمع ودعم الناجيات، كأهم السبل لمواجهة هذه الظاهرة بشكل فعال ومستدام.
رغم التعديلات القانونية التي أُدخلت على بعض مواد قانون العقوبات، مثل المواد 548 و192 المتعلقة بجرائم العنف ضد النساء، لا تزال الهوة كبيرة بين النصوص المكتوبة والتطبيق العملي. فجرائم قتل النساء، التي غالباً ما تُرتكب بذريعة الشرف، تُظهر أن القوانين، رغم أهميتها، ليست كافية مما يترك الكثير من الجرائم دون ردع حقيقي.
ففي 8 مارس/آذار 2020، ألغى المشرع السوري المادة 548 من قانون العقوبات التي كانت تمنح عذراً مخففاً لمرتكبي جرائم الشرف. قبل ذلك، كانت هذه المادة تتيح تخفيف العقوبة لمن يقتل أحد أقاربه بدافع “الدفاع عن الشرف”، مما أضفى شرعية ضمنية على مثل هذه الجرائم لسنوات طويلة، ورغم أن إلغاء المادة كان تطوراً إيجابياً، إلا أن تأثيرها كان محدوداً على أرض الواقع، إذ لا تزال الثقافة المجتمعية تنظر بعين القبول لمثل هذه الجرائم، مما يقلل من فعالية النصوص القانونية.
بالإضافة إلى ذلك، استمرت المواد القانونية الأخرى، مثل المادة 192، في توفير ثغرات تُمكّن الجناة من الحصول على عقوبات مخففة، تمنح هذه المادة القاضي صلاحية تخفيف العقوبة إذا ثبت أن الجريمة ارتُكبت بدافع “شريف”، وهو مصطلح فضفاض يُعرّف بأنه “عاطفة نفسية جامحة تسوق الفاعل إلى ارتكاب جريمته تحت تأثير فكرة مقدسة لديه” هذا التعريف يفتح الباب أمام تبرير جرائم قتل النساء، خاصة تلك المرتبطة بسلوكهن أو أجسادهن.
رغم تعديل بعض مواد قانون العقوبات السوري، لا تزال النساء في سوريا تيواجهن خطر الموت لمجرد كونهن نساء. يُذبحن في منازلهن، يُحرقن في الساحات، ويُطلق عليهن الرصاص أمام أعين الجميع، بينما يفلت الجناة في كثير من الأحيان من العقاب بفضل تحيزات قانونية ومجتمعية.
رغم وجود مواد قانونية عامة تُجرّم العنف الجسدي بدرجاته المختلفة، مثل المواد 540-543، تعاقب على أي اعتداء يُلحق أذى بالآخرين تبعًا لخطورة الإصابة. فالمادة 540 تفرض عقوبات على الضرب الذي لا يؤدي إلى تعطيل عن العمل، بينما تشدد المادة 541 العقوبة إذا تسبب الاعتداء في عجز يتجاوز عشرة أيام. أما المادة 542 فتنص على عقوبات أشد إذا خلف الاعتداء تشويهًا دائمًا أو عاهة مستديمة، في حين تعاقب المادة 543 الضرب المفضي إلى الموت دون نية القتل.
ورغم وضوح هذه النصوص في تجريم العنف، فإن تطبيقها يتأثر بالأعراف الاجتماعية التي تميل إلى تبرير بعض أشكال العنف الأسري، خصوصًا في سياقات “التأديب” أو “الدفاع عن الشرف”. كما تمنح القوانين القضاة سلطة تقديرية واسعة قد تؤدي إلى تخفيف الأحكام، فضلًا عن انتشار الحلول العشائرية التي تؤدي إلى إسقاط العديد من القضايا قبل وصولها للمحاكم، مما يحد من فاعلية هذه المواد في تحقيق الردع القانوني وحماية الضحايا.
حالات الغضب الشديد، التي تُعرف بـ”فورة الغضب”، تُستخدم بشكل واسع لتخفيف العقوبات على الجناة، حتى لو مرت شهور على معرفتهم بما يثير غضبهم.
كما أن الاجتهادات القضائية توسّع نطاق “الدافع الشريف”، ليشمل ليس فقط المحارم، بل الأقارب العصبات أيضاً، مثل العم، مما يضفي شرعية اجتماعية وقانونية على هذه الجرائم.
تشير المحامية سنابل سليمان إلى “أن القضاء بقي يستخدم الدافع الشريف بأحكام قتل النساء رغم التغييرات التي طرأت على القوانين، تنطوي هذه الجرائم على تسامح قانوني وعلى عنف مبرر شرعاً وتمييز واضح ضد النساء وهنا يلعب المحامي دور هام في توصيف الجرم فإما يدين القاتل أو يقف معه بحجة ثورة الغضب”
هذا التعريف الفضفاض يترك المجال مفتوحاً لتبرير الجرائم المرتكبة ضد النساء، مما يقوض الجهود القانونية لردع هذه الجرائم، ويجعل الأعراف الاجتماعية أقوى من القانون في بعض الحالات.
تقول الحقوقية “كاميليا تمرو” المقيمة في منطقة الباب شمال سوريا: ” إصلاح قانون العقوبات السوري يجب أن يتجاوز إلغاء المواد المثيرة للجدل، ليشمل إضافة نصوص واضحة وصارمة تجرّم العنف ضد النساء بشكل خاص، كما يجب سد الثغرات القانونية التي تمنح أعذاراً مخففة، مثل المادة 192، والعمل على توعية القضاة والمجتمع بخطورة استمرار هذه الجرائم تحت أي مسمى.”
نشرت منصة السويداء 24، خبر مقتل الشابة ليليان الذي
يحاول بشكل صريح التأكيد على براءة ليليان، وأن الجريمة لا تندرج تحت تصنيف “جرائم الشرف”. ، وأن تقرير الطبيب الشرعي أكد عذريتها، وكأن هذه الخطوة ضرورية لتأكيد أن الجريمة غير مبررة.
هذا التوجه يعكس تصوراً بأن الجرائم المرتبطة بـ”الشرف” قد تكون مبررة أو أقل فظاعة ، كما يعزز فكرة أن العنف إذا ارتبط بسلوك معين للضحية. يُبرز الخبر معاناة ليليان مع والدها، ويصفه بأنه “غير سوي نفسياً” و”غير أخلاقي”، وأن أقاربه، بمن فيهم والده، تبرؤوا منه. هذا التوصيف يُظهر الجريمة على أنها حالة فردية ناتجة عن خلل نفسي أو أخلاقي لدى القاتل، ما قد يساهم في عزل القضية عن سياقها الاجتماعي والثقافي الأوسع.
ويظهر في الخبر اهتمام كبير بحماية سمعة ليليان بعد مقتلها، من خلال نفي أي اتهامات قد تمس شرفها أو سلوكها
أدانت العديد من المنظمات والمنصات الحقوقية جرائم قتل النساء بعد جريمة قتل ليليان، مطالبةً بتشديد العقوبات ومواجهة الأعراف التي تكرّس العنف.
“منصة أمان“، المعنية بدعم النساء في السويداء، أصدرت بياناً أكدت فيه أن قضية ليليان أبو سرحان “لن تُنسى”، مطالبةً بأقسى العقوبات ضد الجناة، والعمل على تفكيك الموروث الثقافي الذي يدعم القهر والظلم.
وأدانت منظمة النساء الآن جريمة قتل ليليان، مؤكدة أن هذه الجريمة تأتي في سياق تصاعد العنف ضد النساء تحت ذرائع العادات والتقاليد،ودعت المنظمة إلى محاسبة الجناة وإنهاء الإفلات من العقاب تحت هاشتاغ #اسمها_جريمة_اسمه_قاتل
تطالب هذه المنظمات بتحقيق العدالة عبر إصلاح القوانين وتعزيز ثقافة الاحترام والمساواة، مع التأكيد على دور المجتمع المدني في مناصرة حقوق النساء وإحداث تغيير حقيقي على كافة المستويات.
والطريق نحو مجتمع آمن للنساء يتطلب تكاتف الجهود لإلغاء الأعذار القانونية، كسر وصاية الأعراف، وتمكين النساء ليصبحن جزءاً فاعلاً في صناعة القرار، فالعدالة تبدأ بإعلاء قيمة حياة الإنسان فوق كل موروث أو تقليد.
وفي هذا السياق، تتحد أصوات النساء اللواتي تحدثنا معهن، جنباً إلى جنب مع المنظمات الحقوقية، في مطلب واضح وصريح: لا لقتل النساء.. نريد المساءلة والمحاكمات العادلة للقتلة! فبدون عدالة حقيقية، سيظل العنف مستمراً، وستبقى الأرواح تُزهق بلا رادع، مما يجعل الحاجة إلى إصلاح جذري أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.